: آخر تحديث

التاريخ والمذكرات والتدقيق

3
3
3

أحمد مصطفى

من يتجاهل ماضيه لا يفهم حاضره ولا يستشرف مستقبله بشكل صحيح، وتلك الفائدة الأهم من دراسة التاريخ والعودة إليه دائماً، ليس من باب «الحنين العاطفي» للماضي ولا من قبيل الأصولية المتحجرة وإنما للاستفادة من الدروس التي تمكننا من فهم حاضرنا وواقعنا والتخطيط لمستقبلنا. وأتصور أن ذلك لب المثل الشعبي الذي يلخص الحكمة الجمعية «من فات قديمه تاه». انتهيت لتوّي من قراءة مذكرات وزير الحربية ورئيس المخابرات العامة السابق في مصر أمين هويدي. ورغم أني قرأت له كتباً من قبل، سواء عن فترة عمله سفيراً بالعراق عرض فيه لأحوال هذا البلد العربي المهم في فترة حرجة من تاريخه، ومقالات أخرى له عن قضايا متعددة، لكنني لم أكن قد قرأت كتابه «50 عاماً من العواصف.. ما رأيته قلته».. ليست أهمية الكتاب في استعراض وقائع فترة مهمة في تاريخ مصر ما زالت محل جدل ونقاشات حتى الآن، وشابها الكثير من تضارب الروايات والحكايات، خاصة في مذكرات وكتب رموزها من رجال حول جمال عبد الناصر إلى غيرهم. إنما أهمية قراءة تلك المذكرات أنها توفر صورة مختلفة عن مذكرات الرئيس السادات مثلاً وكتابات محمد حسنين هيكل وغيرهما عن تلك الفترة. حين يختلط التاريخ بالآراء الشخصية و«آفة الهوى» يصعب تصفية الحقائق، ويحتاج التدقيق إلى التعرف على الرواية لواقعة محددة من أكثر من مصدر ومن جوانب متعددة إذا أتيحت. ورغم أن كثيرين استخدموا «الوثائق» لتعزيز رواياتهم، إلا أن ذلك لا يعني دوماً مصداقيتها. ليس من باب التشكيك في وثائق يمكن الرجوع إليها في مصادرها الرسمية، ولكن لأن كثيراً من «الأصول الرسمية» لتلك الفترة لم يُتَح بشكل كامل وشفاف، لا للباحثين والمؤرخين ولا للجمهور العام بالطبع. ميزة مذكرات أمين هويدي رغم أن بها ملحقاً بالوثائق، سواء من الجريدة الرسمية أو محاضر اجتماعات رسمية ليست مصرية فقط، بل من أطراف أجنبية يمكن الاطّلاع على أرشيفها الرسمي، إلا أن ذلك ليس المهم في توفيرها «جانب آخر للقصة». إنما لأن الرجل، العسكري أساساً، يغلب عليه فيها «الانضباط» أكثر من تفسيرات السياسة وأهوائها. فتلحظ أنه لا يعظم من دوره في كل المهام التي تولاها وزيراً أو سفيراً أو غيره. حتى رغم اعتقال السادات له ومحاكمته ضمن ما سماها الرئيس وقتها «ثورة التصحيح» وسجنه مع آخرين من رجال عهد عبد الناصر لم تحمل المذكرات سوى وقائع دون اتهامات مرسلة أو تبريرات أو حتى انتقادات للسادات، رغم أن المذكرات نشرت عام 2002، أي بعد رحيل السادات ونهاية عصره. كل ذلك يعطي قدراً من المصداقية لجانب من رواية الأحداث والوقائع، والتي حرص الرجل الذي توفي عام 2009 على ان يتحدث عما كان طرفاً فيه فقط ولم يروِ ما سمعه أو «نما إلى علمه» أو يستشهد بما لم يكن واقعاً عاشه بنفسه. من الطبيعي أن تؤخذ مذكراته في سياق أنه من «رجال عبد الناصر»، لكن هكذا كان السادات وهيكل والفريق محمد فوزي وغيرهم ممن كتبوا مذكرات وكتباً عن تلك الفترة. إنما يبدو من قراءة ما كتبه، ومضاهاته بما يتذكره المرء من تلك الفترة ومن روايات الآخرين عنها في مذكراتهم وكتبهم أنه كان أقرب إلى وصف عبد الناصر له بأن «أمين يقول الحقيقة ولو على نفسه». ملاحظة أخرى مهمة من قراءة المذكرات هي أن أمين هويدي على ما لايبدو كان رجلاً عسكرياً طوال الوقت حتى وهو في معترك السياسة يتعامل مع مناوراتها وألاعيبها بعقلية منضبطة تعتمد على خبرته في الجيش ومدارس التدريب وكلية الأركان. لكن المفيد من الاطّلاع على مثل تلك الكتابات عن التاريخ أن روايته، سواء عن قصد أو بدون، تسهم في تدقيق الكثير مما جاء في مذكرات الآخرين ورواياتهم عن تلك الفترة. خاصة روايات ومذكرات هيكل والسادات وغيرهما، وذلك عن وقائع محددة كان هويدي طرفاً مباشراً فيها حاضراً تفاصيلها. ففي النهاية، كتب الرجل مذكراته ونشرها وهو لا يسعى إلى منصب أو مكافأة على أي دور وطني ولا يستهدف «تضخيم الذات» ونسبة إنجازات وهمية إلى سجله. مع الأخذ في الاعتبار مسألة مهمة، وهي أنه لم يفعل كما فعل العسكري الراحل الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان جيش مصر في حرب أكتوبر حين نشر مذكراته أو أحاديثه الإعلامية وكتبه. فالشاذلي حكى كثيراً عن تفاصيل قد تعد أسراراً عسكرية لتبرئة اسمه من اتهامات السادات له. أما أمين هويدي فلم يفصل كثيراً فيما يعرف من عمله وزيراً للحربية أو رئيساً للمخابرات. حتى بعض الأمثلة القليلة التي ذكرها لم تكن بغرض إثبات إنجازه بقدر ما كانت لإكمال صورة ما يرويه دون تفصيل. خلاصة القول، إن من يريد أن يعرف تاريخه لفهم حاضره واستشراف مستقبله يجب ألا يعتمد على مصدر واحد، أو حتى مصادر تروي جانباً أحادياً أو جوانب معينة من أي فترة تاريخية. بل عليه أن يلّم بكافة الروايات ويدقق فيها لاستخلاص حقيقة، ولو نسبية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد