: آخر تحديث

دور الثقافة في تشكيل الوعي الجمعي

4
4
4

ليست الثقافة مجرّد تراكم للمعرفة، أو زخرفة للخطاب الاجتماعي، بل هي جوهر الهوية، وروح الأمة، ومرآة وعيها الجمعي. فالمجتمع الذي يمتلك ثقافة حيّة، متجددة، قادرة على التفاعل مع معطيات العصر، هو مجتمع يملك أدوات الفهم، وآليات النقد، ومقومات التقدّم.

ولهذا تشكل الثقافة الذاكرة الجمعية التي تحفظ تجارب الشعوب، وتعيد إنتاجها في صورة قيم، ورموز، وسلوكيات. من خلالها تُبنى سردية المجتمع حول ذاته، ويتحدد موقعه من العالم. فالقصص الشعبية، والأمثال، والموروثات، ليست مجرد ترفٍ لغوي، بل هي أنماط تفكير مغروسة في اللاوعي الجمعي، تتجلى في القرارات والسلوكيات الجماعية.

ونجد أن الثقافة اليوم تتسلّل إلى الوعي الجمعي عبر أدواتها الناعمة: التعليم، والإعلام، والأدب، والفنون. فكل فكرة تُروّج، وكل صورة تُعرض، وكل قصة تُروى، تترك أثراً في البنية الذهنية للفرد، الذي هو في النهاية جزء من جماعة أوسع. بهذا المعنى، فإن السينما ليست مجرد ترفيه، بل وسيلة لبناء تصورات عن "الآخر"، والمناهج الدراسية تسهم في تشكيل عقول الناشئة.

الثقافة لا تكتفي بتحديد من نحن، بل تسهم أيضاً في تحديد كيف نكون، هي التي ترسم حدود المقبول والمرفوض، وتشكل الحسّ الأخلاقي العام، بل وحتى الأحلام الجماعية. مجتمعٌ تُربّى أجياله على قيم التعددية والانفتاح، سيختلف بالضرورة عن مجتمعٍ تُغرس فيه قيم الانغلاق والانعزال. من هنا، فإن المعارك الثقافية ليست سطحية كما تبدو، بل هي صراع على مستقبل الوعي.

ولم تعد الثقافة محصورة داخل حدود الجغرافيا، بل أصبحت أداة نفوذ عالمي، فالدول التي تنجح في تصدير ثقافتها، تزرع تأثيرها في عقول شعوب أخرى. وهذا ما يجعل الاستثمار في الثقافة، ليس ترفاً حضارياً، بل ضرورة استراتيجية. إذ من خلالها يمكن بناء تحالفات ناعمة، وتفكيك صور نمطية، واستعادة موقع الأمة في مشهد الحضارة الإنسانية.

وهذا ما تعمل عليه رؤية المملكة 2030 بشكل جدي واستراتيجي مكثف، لهذا نجد أن هناك العديد من المشروعات الثقافية المتنوعة التي تستهدف نشر الوعي الداخلي، وكذلك المشروعات التي تستهدف تقديم الإبداع والإنتاج الفني والمعرفي والفكري السعودي إلى الشعوب الأخرى.

خاصة أننا في زمن تشتد فيه رياح العولمة، وتتنافس فيه الخطابات، حيث باتت الحاجة ملحّة إلى ثقافة تعيد تشكيل الوعي الجمعي، وتمنحه مناعة فكرية ضد الاستلاب، والذوبان، والتشظي. فالثقافة ليست زينة المجتمعات، بل درعها الواقية، وبوصلتها التي تهديها إلى مستقبلٍ تتقاطع فيه الحداثة مع الجذور، والعالمية مع الأصالة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد