أغلب حروب الشرق الأوسط في القرن الماضي، كانت حروباً عدوانية ومدمرة. عدوانية لأنها جاءت في إطار تحقيق مكاسب ومصالح القائمين بها على حساب بلدان وشعوب المنطقة، وأدت إلى إضعافها وتدمير قدراتها، ومنها حروب إسرائيل ضد العرب والفلسطينيين خاصة، حيث كان الهدف توسع إسرائيل في محيطها. وكانت الحروب مدمرة، لأنها أوقعت أفدح الخسائر البشرية والمادية في شعوب ودول المنطقة، كما حصل في الحروب بين العرب وإسرائيل، والحرب الإيرانية - العراقية، ومثلها الحرب الإيرانية - الإسرائيلية الحالية، التي بينت بدايتها حجم ما حصل من خسائر على جانبي الصراع فقط، بل ما خلقته من خوف في احتمالات حرب نتيجة استخدام السلاح النووي.
لم تقتصر ما عاشته المنطقة على حروب بين الدول، بل شملت حروباً داخلية طاحنة وطويلة، لم تكن نتائجها أقل مأساوية وفداحة من نتائج الحروب الأولى، ولعل الأصعب في نماذجها الحرب الأهلية في لبنان، التي استمرت مع تداعياتها نحو ربع قرن، فيما استمرت حرب نظام الأسد ضد السوريين أربعة عشر عاماً، وما زالت بعض ظلالها قائمة على الأرض.
نتائج الحروب لم تتوقف عند الخسائر البشرية والمادية الكبيرة وفيها عشرات الملايين، بينهم ضحايا من قتلى ومثلهم من جرحى ومفقودين وآخرين من مهجرين، إضافة إلى خسائر مادية، عجزت الإحصاءات عن حصر أرقامها وتفاصيلها، فأعلنت ما استطاعت الوصول إليه، وكانت النتيجة العامة لحروب المنطقة، أن حولت دول الغنى والوفرة والحيوية والأمل في مستقبل موعود إلى دول خراب وحاجة وفقر ومخدرات وأمية، بينها العراق وسوريا ولبنان، وأضافت في تلك البلدان إرثاً في الدعاية والأكاذيب والممارسات، دعمت وكرست السلطات الحاكمة والقوى النافذة، وعززت تبريرات ذهابها للحرب والانخراط فيها، والسعي للتخفيف من الآثار الكارثية، التي تمخضت عنها الحروب.
إن بين الأهم في إرث حروب الخراب، أنها كرست مرجعيات آيديولوجية وسياسية لفكرة الحرب. فجعلتها قومية غالباً، وأسبغت عليها مسحة دينية في بعض الأحيان، وطبعتها لوثة أممية في حالات قليلة، رغم أن الدول والجماعات المؤيدة للحرب، لم تكن على وفاق مع تلك المرجعيات، وكانت ضد بعضها علناً، وأغلبها لم تكن له هوية سياسية واضحة، يستند إليها، بل مصالح وغايات محددة ومؤقتة ومتناقضة، لأن السلطات وأتباعها والقوى التابعة، كانت في منشئها ذات أصول عسكرية ومن ميليشيات مسلحة، وأقرب إلى عصابات وتكتلات، ارتدى بعض أركانها اللباس العسكري، وحملوا السلاح، ونزل بعضهم إلى مواقع قرب خطوط القتال، وقد تكررت الحالات في العراق وسوريا ولبنان وغيرها.
وضم إرث الحروب، حشداً من مقولات النصر، التي غالباً ما لهجت بها، وكررتها ألسنة القادة والمؤيدين لهم، وقد سمع العالم كثيراً من مقولات النصر في إيران والعراق بعد حربهما التي استمرت ثماني سنوات، ومنها وصف العراق تلك الحرب بـ«القادسية» أو «قادسية صدام»، وزعم آخرون في لبنان أن حرب إسرائيل عليه عام 2006، التي قتلت وجرحت وهجرت معظم سكان الجنوب، كانت «نصراً إلهياً»، وكله غيض من فيض، يمتد في دائرة تضليل موروث يشمل الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1967، التي عكست تحولاً إقليمياً عميقاً في كل المنطقة وفي مختلف جوانب حياتها، وقد وصفتها القيادة المصرية على لسان الرئيس المصري جمال عبد الناصر بأنها «نكسة»، فيما رأى القادة السوريون أن أهم نتائج حرب عام 1967 «أنها عجزت عن إسقاط النظام التقدمي في دمشق»، الذي كان وزير دفاعه حينذاك اللواء حافظ الأسد، وتم ترفيعه بعدها إلى فريق يتولى رئاسة العسكرية السورية، قبل أن يستولي عام 1970 على السلطة، ويحكم سوريا لثلاثين عاماً لاحقة ويورثها لابنه.
وكان تلميع صورة العسكر وقادة الميليشيات ودفعهم إلى الواجهة أهم تعبيرات إرث بلدان الحرب والخراب، ومنها إسرائيل التي كرست أسطورة عن قوة جيشها وحربه على الفلسطينيين والعرب، وحصل ضباطه على امتيازات، وصاروا نجوماً في المجتمع، وأعطتهم خدمتهم العسكرية فرص الانخراط في أنشطة النخبة المدنية من القادة السياسيين إلى أساتذة الجامعات ومديري الشركات وخبراء في قضايا الأمن والشؤون العسكرية، لقاء ما تسببوا فيه من مآسٍ وكوارث في حروبهم على الفلسطينيين وجوارهم، ولن تكون آخرها الحرب مع إيران.
وما فعلته إيران فيه بعض الاختلاف، إذ وسعت حجم العسكرة في المجتمع، فأقامت الحرس الثوري إلى جانب الجيش الرسمي، وأعطته مهمات سياسية واقتصادية، ودفعت بوحداته وقياداته مهمات داخلية وأخرى خارجية أدارت تدخلات متعددة في بلدان عربية وأجنبية تحت واجهات دينية وسياسية، بينها إنشاء ميليشيات مسلحة وإدارة صراعات محلية، ووقائع ما حدث في العراق وسوريا ولبنان في العقود الأخيرة أمثلة حية.
حرب إسرائيل وإيران، فتحت أبواب إرث بلدان الحروب والدمار، لا باعتبار البلدين من تلك البلدان فقط، إنما باعتبارهما الأهم في تنظيم وإدارة أنشطة للهيمنة في معظم بلدان المنطقة وفي الأبعد منها.