: آخر تحديث

العريفة بكُبره يندهن سيره

7
6
5

علي بن محمد الرباعي

عاد (المَدرِّج) من الحجاز إلى قريته، بروحٍ نجرتها الغُربة، وملامح هدّها عناء الترحال؛ عامان مضيا منذ غادرها، لقي فيها من الأهوال والقسوة ما لقي؛ لكنه ما حُرم المرزق، واقتنع بأن مقولة جدّه (اللي يخرج من داره يقلّ مقداره) خاطئة، ولكن أكثر ما ضاعف حزنه أن مسقط رأسه لم تبتهج بعودته كالعادة مع المغتربين القادمين؛ فلا أحدّ بشّر بقدوم الغائب، ولا رحّب بعودة اللافي، مشى من الربوة التي تقف عليها الشاحنات، وشنطته الحديد فوق رأسه؛ والبقشة المحشور بها كثير من الهدايا في يده؛ وصعد درجة بيتهم المتهالكة، وكأنها فمّ شايب تنود أسنانه؛ وكادت زوجته تحاحي، حطت عنه الشنطة، وأدخلتها العُليّة، ووضعت البقشة على مدماك المواعين.

ما أمداه يتواسى، حتى تبدّل لون وجهها، ولم تنجح في مداراة وجعها، ولا التحكم في دموعها، فانفرطت تشهق وتروي له ما جا وما جرى؛ ولم يقطع سالفتها إلا بكاء الرضيع، فأندرت الميزب، وأخرجته ومدّت به لأبيه؛ وقالت: ولدته بعد سفرك بستة شهور، وسميناه (كاسب). فنسي وهو يتمقّل فيه كل تعبه وشقا غربته؛ وانفرجت أسارير وجهه؛ فسمّى عليه؛ وحسّ الرضيع بالأمان وغفا، فقام وأعاده وهو يمشي على طرف أصابع قدميه إلى ميزبه، وعلّق الميزب في حبل متدلّي من كُلّاب الزافر.

قعدت قبالته، وحطت المخاضه فوق ركبتها، وبدأت ترجها بيدها اليمنى، وباليسرى تهز ميزب رضيعها؛ ولفتت انتباهه لمعة دماغه من الشقّ؛ فقال: ما شاء الله حلّقتيه. فقالت: البارحة. فأضاف: بسمة الرضا بادية عليه. فقالت: درى أنك جاي. فتناول الميزب بكلتا يديه؛ وطبع قُبلة طويلة على جبينه؛ وهي تردد: لا هنت عساك تسلم.

أحزنه أن اللي ما يحللون ولا يحرمون استغلوا غيابه؛ وموت عمّه؛ فقلعوا الحُدّان؛ واعتدوا على الشفيان، وقطعوا الخيطان؛ واحتشّوا الخُليان؛ فنشدها: هوّه ما كتبتي لي جواب تعلميني بوفاة عمّي وتعدّي الفجرة على حقّنا؟ فحلفت باللي ما ينحلف إلا به إنها راحت للفقيه؛ وكتب لها الخطّ؛ وسلّمته (المشتّر) سواق اللوري، وكلما عاد من سفر يقول: رجالك يسلم عليك؛ وترى نفسه طابت من الديرة.

تيقّن (المدرّج) أنّ عيال الثلوث والربوع تآمروا عليه؛ ونشدها عن المسراح والمراح، فأخبرته أن الفقيه يزرع ويقلع، ويكيل لها من كل زرعة ما يقسم ربي، وقالت: بقرتنا طرح ربي فيها البركة، وأنا أتشقّى مع الجماعة ونهضت، فأزاحت الجمر عن الصلاة، ومسحتها من الرماد، وطرحت عجينتها البايتة، وغطّت عليها بالمكبّ، ورددت عليها الجمر من الأطراف، وقرّبت منه براد الشاهي؛ فرشف جغمة؛ وخرجت منه (آااح) وعلّق: عبلتيه سُكّر يا العريبه؛ والله لو كان نغترفه من جُريبه. فردّت ضاحكة: الحلا يدفع البلا.

اكتسب (المدرّج) من سفرته حنكة، وبُعد نظر، وقرر يبدأ بالمذّن؛ فأخرج من البُقشة شماغ كورشيه؛ وكيلة قهوة؛ وما راح من الوادي إلا والكسوة قدامه؛ ولكنّه مراوغ؛ ما أعطاه العلم الناجح؛ فقرصه في فخذه؛ وحندر فيه؛ فطاح المسواك من ايده؛ وقال: يا (ديكان) لا تلجّغ الهروج، وابشر بعشرة ريال فرانسي، فقام يلمح للمرة حولهم وإلا ما هيب حولهم؛ ولاح الباب؛ ثم سرد عليه العلوم؛ وكل ما تنسّم قال: يا رفيقي رفاقتنا ضعاف نفس، والفقيه معه طمعه؛ وما معك إلا تُبلص الشاعر والتاجر عشان يشهدون معك، وتدهن سيرهم، فنفر فيه: أرشي الناس عشان يشهدون لي بأملاكي وورثي من عمي الفاني خبت ولا طبت؟ فقال: لا ترشي، ادهن سيرهم، ردّ عليه: خذلك ربي يا ديكان ما تمزى تطق في جماعتنا العفاف النظام. فضحك وردّ عليه: العريفة بكُبره يندهن سيره.

التقط الشماغ وكيلة القهوة، وقال: ما تستاهل إلا رمادة في وجهك يا الرخيص، وعاد للبيت؛ قلعت الحُرّة خبزتها؛ وصبّت لبنها؛ أكل لين صرّت إذنه؛ ثم فتح البقشة وأخرج قطعة قماش صوف كشميري، وضمها مع القهوة والشماغ، وأضاف عليها دحوة حوايج، وقيسه على بيت العريفة؛ ومن ساعة ما سمع صوته عرفه؛ فخرج يرحّب وقلّطه، وعينه على الهدايا، وأخذ علم واعطى علم، ولما سمع منه قول ديكان؛ العريفة بكُبره يندهن سيره، انقلب وجهه؛ وقال: يخسى ولد أم الشكوة المقلوبة، لكن كل شيء بحسابه، تقهوى، وكثّر بالخير، وهو قايم، مدّ بكيس صغير فيه عشرة جنيهات ذهبية وارد (جورج) وبغى يقوم العريفة يودّعه؛ فحلف ما يتحرك من مكانه.

بعد صلاة الجمعة؛ قام العريفة وقال: يا جماعة لا تروحون؛ اللي يسنن ينتظرنا في الظّلة؛ وأوّل من خرج الشاعر، الذي اختار زاوية في الظلّ، فولّع مكيّف رأسه، دون أن يحسب حساب أحد؛ وطوّل الفقيه في التسنّان؛ فقرب منه العريفة وقال: تمغّطْها وإلا ما تمغط، والله لترد الطاق مطبوق، والا لاخرج الأوّلة والتالية؛ فسلّم وضمّ رأس العريفة بكفيه؛ وهو يردد: قُلْ وطُلْ يا كبيرنا، والكبار على يدك تغدي صغار، وبدأ بطنه يقرقر؛ فقال: صُرّها لا تفضحنا ببيت ربّي.

أسند العريفة ظهره إلى حماطة المسيد، وقعد القرفصاء، فصمت الجميع، وكأن على رؤوسهم الطير، وشرع بديباجته المعهودة؛ فيكم من صلّى على محمّد؛ فصلّوا وسلّموا عليه؛ وأضاف: اذكروا الله. فردّوا بصوت واحد: لا إله إلا الله. وأخرج كيس الجنيهات؛ ومدّ به؛ قائلاً: ألزم (يا المدرِّج) وأقسم يمين ما يقبل منه إلا كساويه؛ وأن يرجع إليه كل حقه من البيت والوادي؛ ورفع الصوت وعينه على ديكان؛ وأضاف: اللي يقول ادهن سير العريفة مدهون سيره وسير أبوه وجده، ويأكل من الدمنة، وأنا ذمتي ما هي رخيصة، والحقّ يمضي على رقبتي قبل رقابكم، وشيمتي تسبق قيمتي؛ واللي ما يرفع قدره إلا الفلوس، بوس به ومية بوس.

رددت الظُّلة: بيّض الله وجهك. وتعالى صوت الإطراء، وقام الفقيه وبراطمه متلاصقة؛ وحلف ما يتغدون إلا عنده؛ فقال الشاعر: قِبلتْ، وأضاف: من يوم عاد المدرِّج ما عاد تعرف تتهرج، اسبقنا والله الله في الدسمة، فشاعت البسمات والغمزات والضحكات، وانطلق الفقيه قدامهم؛ نصّ المشلح فوق ذراعه والباقي يسحب.

قلّطهم على الميسور، وقال: بالحرام يا غداكم إنه عقال عشاكم، وبعد العصر؛ دقّ الزير وتوالمت الصفوف، ودرج المعراض، والفقيه مشغول ينصب الريحان والكادي في عقال المدرّج، ويحتلج قدامه بالجنبيّة، ونص العراضة يرددون (لابةٍ ما تعطي الحق يترب بابها)، والنص الباقي يردون (خرعة الطماع لا بد يتربى بها).


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد