: آخر تحديث

مونتي.. أسرار روما الدفينة

3
3
4

لا يشبه حي مونتي في روما أي حي آخر، فهو ليس مجرد منازل متلاصقة وطرقات ضيّقة، بل روح تسكن الجدران، وظلال تحف الأزقة، وحكايات تنبعث بين شقوق الحجارة، حي مونتي لا يقدم نفسه كباقي أحياء العاصمة الإيطالية، بل يومئ لك من بعيد، فإن اقتربت، أغواك بذكريات لا تنسى.

قضيت هناك نهاية أسبوع لا تشبه سواها، وصلت مساء الجمعة، قاصداً الحي الصغير الذي يشبه كثيراً من الأزقة القديمة التي زرتها مرارا، لكنه ما إن احتواني حتى شعرت أني عدت إلى وطنٍ مألوف، أعرفه رغم أني لم أطأه من قبل! الشوارع مرصوفة بالأحجار العتيقة، والمباني تفيض بألوان الزمن، مزيج من الطوب العاجي والداكن، الموشى بعرق السنين.

استيقظت صباح السبت على صوت الحياة المتسللة من النوافذ، أصوات أبواب تشرع، فناجين تقرع، وأحاديث تسافر من شرفة إلى أخرى، نزلت إلى الشارع، فقادني عبق القهوة إلى مقهى صغير، تديره سيدة خمسينية تدعى "لوريتا"، خاطبتني وهي تملأ فنجاني بابتسامة أمٍ إيطالية: "مونتي لا ينام.. فقط يختبئ بين الألوان والنكهات".

عدت وجلست في شرفتي، أراقب الوجوه، وأستمع لخطواتهم كما لو أني أقرأ قصائد تمشي، ثم بدأت جولتي بلا خريطة ولا دليل! هنا دكان يعرض أحذية وجلديات مصنوعة يدوياً منذ عقود، وهناك في ركن معتم مكتبة تبيع الكتب القديمة، ومن حول الحي تتناثر روائع روما التاريخية.. خرجت نحوها عبر الدرج السري في مونتي، الذي يقودك أولاً نحو المدرج الروماني "كولوسيوم"، ثم المنتدى الروماني، فمتنزه تراجان الذي يحتوي أنقاض الإمبراطور "نيرون".

في المساء، قادتني قدماي إلى ساحة "مادونا دي مونتي"، القلب النابض للحياة، شبان يعزفون وفتيات يرقصن، وسيدة مسنّة تبيع الكعك المحلّى وتروي للمارّين حكايا زوجها الفقيد، الذي أحبّها فوق هذا الرصيف قبل عقودٍ ستة، جلست لأتأمل النجوم بين الأضواء الخافتة، لم تكن السماء زرقاء صافية، بل روما نفسها تتدلّى نحوي، كما لو كانت تراقبني بحنان.

صباح الأحد أشرق هادئاً، مشيت نحو كنيسة "سان بيترو إن فينكولي"، ووقفت برهة أمام تمثال النبي موسى -عليه السلام- لمايكل أنجلو، تلك العينان المليئتان بالغضب النبيل جعلتني أفكر وأتأمل، دقة التفاصيل وجودة الإتقان، ومنه تتبعت رائحة الخبز الزكيّة، إلى مخبزٍ يقف خلف خشبه العتيق الجد "ماركو"، لأجد الأطفال يتجادلون حول نكهة اليوم من الجيلاتو: هل هي فستق "صقلية" أم ليمون "أمالفي"؟ وهو يبتسم ويكمل خبز كعكة "كانولي" شهيّة.

غادرت حي مونتي مع غروب الشمس، لكنه لم يغادر روحي، ما زلت أشعر بدفء الأرصفة وحميمية الجدران، وما زال حديث "لوريتا" يبهج مهجتي، وابتسامة "ماركو" تسعدني.

في حي مونتي لا تسافر عبر المكان، بل ضمن المعنى، فالوقت ليس مجرد عقرب ساعة يدور، بل ذاكرة عشقٍ تتراكم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد