لم تكن الحرب الكلامية التي اندلعت بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وإيلون ماسك، مجرد خلاف شخصي بين رجلين اعتادا لفت الأنظار وتصدّر العناوين، ولم تكن أيضاً لحظة عابرة من الاضطراب في صفوف التيار اليميني الأميركي؛ بل هي لحظة كاشفة لتصدع عميق في تحالف تكتيكي جمع بين نخبة تكنولوجية ذات طموحات معولمة واقتصادات سوق حرة، وبين شعبوية سلطوية ذات نزعات انتقامية. ففي خلفية هذا الصراع المعلن تقف رؤية متضادة ظاهرياً، لكنها متكاملة بالعمق في تجريف ما تبقى من نزعات الدولة الليبرالية الحديثة، خصوصاً من الناحية القيمية، وتحويلها إلى أداة للهيمنة أو الاستحواذ، أو الإنقاذ المتخيّل للعالم. هذه ليست معركة بين يسار ويمين؛ بل بين نموذجين للتغيير الشمولي: شعبوي مدفوع بتجاوز وربما كراهية للمؤسسات واحتقار النخب، وتدمير تكنوقراطي مدفوع بوهم تجاوز الإنسان والمجتمع إلى ما بعد الدولة، وما بعد المؤسسات والديمقراطية.
والحق يقال، بدا تحالف ترمب - ماسك منذ البداية غريباً في جوهره، لكنه كان منطقياً في ظرفه المتصل بالانتخابات، وما تفرضه من تحالفات مصلحية. احتاج ترمب إلى رمزية ماسك، عبقري وادي السيليكون، بوصفه دليلاً على أنه قادر على استمالة رموز الابتكار رغم عدائهم التقليدي له. واحتاج ماسك إلى النفاذ إلى قلب الدولة الأميركية، من العقود والتسهيلات وصولاً إلى التنظيمات والحوكمة. ورغم تباين الخطاب، فإن المشروعين كانا يتقاطعان في ازدراء ما آلت إليه مضامين الدولة المتخيلة للديمقراطيين، باعتبارها كياناً ينبغي تقليصه لا تعزيزه. كلاهما، بطرقه المختلفة، يرفض فكرة الدولة كفضاء عام، وكحَكم محايد، وكمؤسسة ضامنة للعدالة والمساواة. الدولة، في عيون ترمب، سوق سلطوية للصفقات والولاءات؛ وفي عيون ماسك، مجرد مورد عابر لتمويل مشاريع عابرة للحدود.
هذا التحالف لم يصمد طويلاً لأنه لم يكُن تحالفاً على القيم؛ بل على المصلحة. وحين بدأت التشريعات تمس مصالح أحد الطرفين أو تخرج عن نطاق السيطرة، انهار الخيط الأحمر الرفيع. لم يعُد ماسك قادراً على إخفاء انزعاجه من سياسات ترمب الاقتصادية، لا لأنها تعمّق التفاوت الطبقي أو تضر بالفقراء؛ بل لأنها تهدد أرباحه، ورغم ضجيج المعركة، فإن الاشتباك الحقيقي ليس حول الضرائب أو العقود أو حتى مشروع القانون ذاته؛ بل حول طبيعة الدولة الأميركية في العقد المقبل. هل ستكون دولة مرهقة بتحديات الرعاية ومتطلبات الطبقات المهمشة؟ أم منصة لنقل الثروة من الأسفل إلى الأعلى؟ وهل يمكن لقيم الديمقراطية المؤسسة أن تصمد أمام تحالف المال والشعبوية؟ ترمب من جهته مصرّ على تمثيل «الطبقة العاملة البيضاء»، لكنه في الواقع يقود أعنف موجات إعادة توزيع الثروة منذ عهد ريغان، عبر قوانين ضريبية تمنح الأغنياء امتيازات هائلة، وتقصي الملايين من برامج الحماية الاجتماعية. وماسك، رغم صورته رائد أعمال عبقرياً، تبدى تجسيداً شرساً لنشأة أوليغارشية رأسمالية لا تؤمن إلا بالتوسع، ولو على حساب ملفات التعليم والصحة والرعاية وكل هذا تغذى على أخطاء كارثية ارتكبها الديمقراطيون منذ لحظة أوباما.
الانقسام بين الرجلين كشف أيضاً وهم ما كان يقال عن قدرة الشعبوية على توحيد الطبقات المهمشة مع النخب المنتجة. بينما تروج حركة «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً» لخطاب معادٍ للمؤسسات بالتحالف مع رؤوس الأموال، مما أدى إلى استياء القواعد، ونفوذ النخب التقنية هو ما سمح لترمب بالصعود، ولماسك بالحصول على دعم واسع رغم عدائه الصريح لفكرة الدولة الاجتماعية. ومن هنا لم يكن التحالف قابلاً للاستمرارية، لأنه يقوم على أوهام متضادة: النخبة التقنية تريد تجاوز الدولة كلياً، بينما الشعبوية الترمبية تريد الهيمنة عليها واستخدامها أداة لتصفية الحسابات تجاه أعدائه.
من هنا، فإن الصدام بين ماسك وترمب لحظة كاشفة ومبكرة للتناقضات التي استبطنها ذلك التحالف، ولم يكن محض صدفة، فهو يفضح التوتر الجوهري بين رؤيتين للدولة: واحدة تعتبرها عبئاً على المخيال التكنولوجي، وأخرى تعتبرها وسيلة للإثراء والقوة. كلاهما لا يرى الدولة أداة لتحقيق الصالح العام. وهما وإن اختلفت المقاربة، اتفقا على تدشين مشروع لتفكيك الضمانات الاجتماعية، إما باسم الفاعلية أو باسم السيادة. وبينما يتحدث ماسك عن «الوعي البشري» و«استعمار المريخ»، تتآكل شبكة الأمان الاجتماعي في أميركا، وتُسحق الطبقات العاملة بين ضرائب غير عادلة وتخفيضات في برامج الصحة والتعليم.
ويُظهر هذا الاشتباك أيضاً فشل النخب التقنية في تقديم بديل ديمقراطي حقيقي. فالنخبوية التكنولوجية، التي تدّعي الحياد والعلم، عاجزة عن التعامل مع السياسة بوصفها مجالاً للنزاع والتفاوض. هي ترى الدولة إما عدواً أو مصرفاً، لكنها لا تؤمن بها إطاراً مؤسسياً للعدالة والعمل على الصالح العام. وماسك، رغم خطابه المستقبلي، يعيد إنتاج أسوأ ما في النيوليبرالية: اقتصاد بلا مساءلة، وتكنولوجيا بلا أخلاق، وطموحات كونية من دون مسؤولية تجاه المواطنين.
من جهته، فترمب على مدى المائة يوم لا يزال يعيد إنتاج خطاب مغلّف بوعود الخلاص. ومن المفارقة أن الرجلين، رغم الصراع، يشتركان في ازدراء فكرة المؤسسات والتشاركية كعملية بطيئة ومعقدة وربما مؤلمة، وهما يسعيان إلى نتائج فورية وسريعة، مع التهرب من شروط اللعبة الديمقراطية: الشفافية، والمحاسبة، واحترام القانون. درس ترمب وماسك يؤكد حقيقة جوهرية مفادها أن درس هذا الصراع هو أن التحالفات المبنية على المصلحة لا تصمد أمام لحظات الحقيقة، وأن الخلاص لا يأتي لا من الشعبوية ولا من وادي السيليكون؛ بل من إعادة بناء السياسة كفن للعبة تشاركية شديدة السيولة والمراجعة، لا كملكية حصرية لرجال الأعمال واستبداد السوق.
والسؤال الذي يطرح اليوم بين المحللين والمقاربين لهذه المعركة خارج نافذة الأخبار العاجلة وتريندات التواصل الاجتماعي بما تحمله من سخرية: هل ينهار المشروعان معاً؟ ربما. لكن الأهم أن ندرك أن معركة المستقبل ليست بين ماسك وترمب؛ بل بين مجتمع يؤمن بالدولة ومؤسساتها، وتحولها لبوابة عبور أو في أحسن حال لمشروع تصحيحي لا مكان فيه لليقين الذي لا يصلح في عالم السياسة.