: آخر تحديث

قمة بغداد: نحو نهج عربي جديد

4
4
3

تحتضن بغداد القمة العربية في لحظة استثنائية تمرّ بها منطقتنا، لحظة تحوّلات كبرى، وصراعات مفتوحة، وتحديات إقليمية مركبة. لكن بغداد، وهي تستقبل القادة العرب، لا ترى في ذلك مجرد اجتماع بروتوكولي، بل تراه علامة فارقة وفرصة تاريخية لتجديد مشروع العمل العربي المشترك، واستعادة زمام المبادرة، وتثبيت موقع العالم العربي كقوة فاعلة لا ساحة تنازع.

لقد أدارت حكومتي مرحلة معقدة اتسمت بالتحديات الإقليمية الكبيرة وما فرضته حرب غزة من ضغط متعدد الأبعاد على الدول العربية، سواء سياسياً أو شعبياً أو دبلوماسياً. من تعاطف كبير فرض معادلات الأمن وانتقلنا عبر سياسات تنموية طموحة من الهشاشة إلى التماسك.

إن القمة العربية في بغداد تأتي في سياق تحولي. إنها لحظة تلتقي فيها الإرادة الوطنية العراقية مع الأمل العربي العام في تجاوز الخلافات، والانطلاق نحو بناء منظومة تعاون عربي فعّالة وشاملة. نحن بحاجة اليوم إلى خطاب عربي مسؤول، يستند إلى الواقعية السياسية، ويؤمن بأن التضامن لا يعني التطابق، بل احترام الخصوصيات ضمن وحدة الهدف والمصير.

يرى العراق أن تعزيز العمل العربي يبدأ من تقوية العلاقات بين العواصم العربية، من الخليج إلى المحيط، على قاعدة الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتفعيل الحوار الصريح والبنّاء، وتوحيد المواقف في القضايا الدولية. فالموقع الجغرافي الاستراتيجي للعالم العربي، وثرواته الهائلة، وشبابه الطموح، وإرثه الحضاري، تمنحه جميعاً قدرة هائلة على التحول إلى قوة مستقلة ومتوازنة على المسرح الدولي.

إن التحديات التي نواجهها –من العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة والضفة ولبنان وسوريا، إلى الانقسامات الداخلية في بعض الدول العربية، إلى التدخلات الإقليمية والدولية– تهدد ليس فقط أمن هذه الشعوب، بل إرادتنا الجماعية كأمة. من هنا، نرى أن الوقت قد حان لإطلاق مبادرة عربية موحدة، تتجاوز البعد الإنساني لتدعم بناء الدولة الوطنية القائمة على الدستور والكرامة والتنوع.

وفي لحظةٍ يغيب فيها الانخراط الدولي الفاعل لصالح شعوب المنطقة، تزداد أهمية امتلاكنا استراتيجية تنموية عربية شاملة. ولهذا، يدعو العراق إلى اعتماد نهج اقتصادي تكاملي يعالج التفاوت التنموي، ويعزز القدرة الجماعية على مواجهة أزمات الغذاء والطاقة وسلاسل الإمداد. ونؤكد في هذا السياق أن مشروع «طريق التنمية» الذي أوشك على الاكتمال هو نموذج عملي لهذا التوجه، ويمكن أن يكون ركيزة لشراكات عربية حقيقية.

العراق لا يرى نفسه لاعباً منفرداً، بل يرى أن دوره الحقيقي يكمن في الجمع بين الأشقاء، واستعادة الثقة بمؤسسات العمل العربي، والتأسيس لعصر جديد من الشراكة السياسية والاقتصادية. إن الأمن القومي العربي كلٌّ لا يتجزأ، ولا يمكن أن يتحقق من دون تعاون فعلي، وسياسات متوازنة، ومؤسسات قوية تحمي المصالح العليا للأمة.

نحن اليوم لا نعيد بناء العراق فحسب، بل نشارك في إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط، عبر سياسة خارجية متوازنة، وقيادة واعية، ومبادرات تنموية، وشراكات استراتيجية. ومن بغداد، نوجه نداءً لكل العواصم العربية: آن الأوان لأن نبدأ من جديد، على أرضية جديدة، ومنهجية جديدة، وإرادة جديدة.

إن بغداد، عاصمة الفكر العربي والتاريخ المشترك، تفتح ذراعيها لقمة العرب، وهي على ثقة بأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأن أمامنا فرصة ثمينة لصياغة مستقبل أكثر تماسكاً وكرامةً لشعوبنا.

*رئيس مجلس الوزراء العراقي


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد