: آخر تحديث

في معايير عِلم الرجال!

3
3
3

محمد ناصر العطوان

في علم الحديث النبوي الشريف، يُعتبر تقييم الرواة الذين يُحدثون عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من الأُسس التي يُبنى عليها قبول الحديث أو رده، ومن المفاهيم المهمة في هذا العلم هي تقسيمات في عِلم الرجال المجاهيل، والتي تقسمهم إلى «مجهول العين»، و«مجهول العدالة»، و«مجهول الحال».

هذه المصطلحات أو التقسيمات ليست هي مجرد تعاريف أكاديمية أو حتى كلام مشايخ في مدرجات كلية الشريعة، ولا «تراث» لا يمكن الاستفادة منه، ولا كلام عفّى عليه الزمن وأكل وشرب عليه الدهر... بل هي تقسيمات تحمل دروساً عملية يمكن استخدامها في حياتنا اليومية في كيفية التعامل مع المعلومات في عصرنا الحالي، خصوصاً مع انتشار الحسابات الوهمية التي تدعي المفهومية والتي تنشر الإشاعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

فمن هو مجهول العين؟ ومن هو مجهول العدالة؟ ومن هو مجهول الحال؟

مجهول العين هو الراوي الذي لا تُعرف هويته، فلا يُدرى اسمه أو ربما لا يُعرف بلده، مثل هذا الراوي لا يُقبل حديثه لأن جهالته تمنع الثقة بنقله، وكذلك فما هو دون الحديث النبوي من أخبار مهمة أو ملمات قد تسبب أزمات اجتماعية، وكثير من الحسابات الوهمية يكون بلا أسماء، ولا ندري من أي البلاد هم... فمثل هذا لا يؤخذ منه علم دنيا أو علم دين.

أما مجهول العدالة فهو من عُرف اسمه لكن لم تُثبت عدالته (أي استقامته الدينية والأخلاقية)، حتى لو نقل المعلومة، فإن عدم ثبوت عدالته يُضعف روايته، ولذلك لأن علماء الحديث لم يُفرقوا بين القول والعمل، ولأن هذا العلم دين، وليس رواية أدبية أو لوحة فنية، فإذا لم تُعرف عدالة الراوي أو ناقل المعلومة فلا يتم التعامل معها على محمل الجد، وكذلك الحال في حسابات معروفٌ أصحابها بسقوطهم الأخلاقي وعدم عدالتهم وانصافهم في تداول المعلومات... فهؤلاء يرد قولهم وقد يُنعت بعضهم «كذوب».

أما مجهول الحال فهو من نُقلت عنه رواية لكنه لم يُمدح ولم يُذم، فبقي حاله مجهولاً، العلماء يترددون في قبول روايته لعدم الوثوق بضبطه أو صدقه.

هذه المعايير الدقيقة عزيزي القارئ التي وضعها علماء الحديث تذكّرنا بضرورة الحذر من المعلومات التي تنتشر عبر الحسابات الوهمية المجهولة في وسائل التواصل الاجتماعي. فـ«مجهول العين» يشبه الحساب الوهمي الذي لا يُعرف صاحبه، و«مجهول العدالة» يماثل حساباً قد يُظهر اسماً لكن دون دليل على مصداقية ناشره، و«مجهول الحال» يُشبه متابعاً عشوائياً تنقل عنه الأخبار دون معرفة خلفيته أو دوافعه.

عندما يُعرِّف العلماء هذه الأنواع من الرواة برفض رواياتهم، فهم يُعلموننا ألا نأخذ المعرفة إلا من مصادر موثوقة، كذلك ينبغي ألا نتعامل مع الأخبار المنتشرة عبر الحسابات المجهولة بأي مصداقية، خصوصاً مع سهولة تزييف الهويات وانتشار الأجندات الخفية، ومع وجود أدوات قادرة على التزييف... الإشاعات تُبنى عادة على نقل مجهول المصدر، أو مصادر مُطعون في نزاهتها، تماماً كالرواة المجهولين في علم الحديث والمطعون في عدالتهم والذين وضعوا آلاف الأحاديث المكذوبة على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم،... فتخيل عزيزي القارئ أن هناك أناساً كذبوا وافتروا الأحاديث عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، رغم التحذير الشديد في الحديث المتواتر (مَن كذبَ عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)... فما بالك بمن يتداولون ما دون ذلك بكثير من أخبار وحكايات وخلافه.

ولأن السياق حول الحديث النبوي، فينبغي أيضاً أن نتذكر حديث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، «كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكل ما سمع» (رواه مسلم)، فالحديث ينهى عن نقل كل ما يُسمع دون تمحيص، لأن في ذلك مشاركة في الكذب، حتى لو كان الناقل غير متعمد. اليوم، أصبح هذا التحذير أكثر إلحاحاً مع تسارع نقل المعلومات دون تدقيق، ومع سياق إقليمي ملتهب... كالعادة.

لذا، فإن العِبرة من هذه المفاهيم الحديثة هي التحقق من مصدر المعلومة قبل نشرها، ورفض الأخبار من الحسابات المجهولة أو المشبوهة، والتأني في النقل وعدم الانسياق وراء العواطف.

كما أن النقد الحديثي للرواة المجهولين ليس تقليلاً من شأن الأفراد، بل حماية لسلامة المعلومة. وهذا ما يجب أن نطبقه في عالم رقمي تختلط فيه الحقائق بالأوهام، فنجعل الثقة مشروطة بالمعرفة والشفافية، لا بالجهل أو التسرع.

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد