: آخر تحديث

وضع غير مسبوق

7
9
8

أمينة خيري

أصعب ما في الوقت الراهن هو فهم ما يجري حولنا.. نعيش أياماً صعبة، من وضع إقليمي متلهب، إلى حال عالمي مشتت بين صراعات فعلية على حلبات المعارك، أو اقتصادية تفوق آثارها الحروب التقليدية، إلى ما يبدو أنه إعادة ترتيب أو إعادة بعثرة لمكونات وقواعد النظام العالمي، لكن الأصعب هو عدم القدرة على فهم الأبعاد واستشراف الآثار. نفهم ونعي الكلمات المستخدمة لشرح ما يجري في غزة أو أوكرانيا أو أمريكا وغيرها من الأحداث والحوادث.. نفهم أعداد الشهداء والمصابين، وإبرام اتفاقات ثم خرقها، وإصدار قرارات وسياسات وغيرها، لكن قدرتنا على فهم أو استشراف آثار كل ما سبق باتت شبه مستحيلة.

لم تعد متابعة الأخبار ضماناً للمعرفة.. كما لم يعد حديث الخبراء والمحللين كافياً لإضفاء هالة من المنطق على الأحداث، حتى خرافات البلورات المسحورة وضرب الودع وغيرها من سبل ادعاء قراءة الطالع، فقدت قدرتها على خداع البسطاء. على سبيل المثال، حديث الساعة هو رسوم ترامب، هكذا أصبحت تٌعرف الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة واسعة النطاق وتشمل السلع المستوردة من أغلب دول العالم. إنها أكثر الرسوم الجمركية في التاريخ عالمية وشمولاً وأثراً. لكن ما هو الأثر بالضبط على الدول منفردة، وعلى التجارة العالمية، وعلى أمريكا نفسها؟

أسئلة يصعب، وربما يستحيل الإجابة عنها إجابة شافية. الرسوم الجديدة قد تؤدي إلى حرب تجارية عالمية، والتكاليف المتزايدة بسببها ستنعكس سلباً على المستهلكين الأمريكيين، والأسعار سترتفع، وشبح الركود الاقتصادي سيلوح في الأفق.

قنبلة ترامب أشعلت الأسواق العالمية، وأدت إلى فوضى في أسواق المال العالمية! كل دول العالم تضررت، وإن بدرجات متفاوتة، حتى إسرائيل. هذه القنبلة قد تؤدي إلى فقدان الثقة وربما قطع علاقات أو تجميدها بين أمريكا وحلفائها.

في الوقت نفسه، هذه الرسوم ستعزز الاقتصاد الأمريكي، وستحمي الوظائف، وستوفر حياة أفضل وأكثر رفاهاً للمواطن، لا المهاجر غير الشرعي الأمريكي. ما حدث في «يوم التحرير»، وهو المسمى الذي اختاره الرئيس الأمريكي ليوم إصدار الأمر التنفيذي التاريخي، سيساعد أمريكا على إعادة بناء اقتصادها، واستعادها أمنها القومي والاقتصادي، ويعيد تعزيز مكانتها الاقتصادية، ناهيك عن توفير الحماية اللازمة والمفتقدة للعمال الأمريكيين.

طرفا نقيض «يوم التحرير» ليسا استثناء في العصر الحالي. الغالبية المطلقة من الأحداث الجسام التي تحدث حولنا وبيننا أصبحت ذات طرفي نقيض، وهو ما يعقد فهمها ويجعل التنبؤ بآثارها أمراً شبه مستحيل. وهذا يفاقم معدلات القلق والفزع والتوتر، بمعناها المرضي. ما يعيشه العالم هذه الآونة غير مسبوق.

في مقال نشرته «ذي أتلانتيك» تحت عنوان «فهم تحركات ترامب المسببة للدوار» (مارس 2025) كتب الرئيس التنفيذي لمجلس الأطلسي، فردريك كيمب، أن الاستخدام المتواصل لعبارة غير مسبوق أمر مُبرر، لكنه لا يُعبر عن خطورة ما يحدث. وأشار إلى ما ذكره له أحد حلفاء ترامب من أن منتقدي الرئيس الأمريكي قللوا من شأن عزمه على تحقيق ما أسماه ثورة في المنطق السليم، ثورة ستُقلب كل شيء رأساً على عقب، بدءاً من العلاقات عبر الأطلسي ومستقبل الشرق الأوسط، وصولاً إلى المساعدات الخارجية الأمريكية والسلطة التنفيذية، لكن كل ما سبق يحدث الآن.

نعيش ثورة بكل معاني الكلمة. هذه المرة الثورة عالمية، تلقي بظلالها وآثارها على من يشعلونها، ومن يؤيدونها، ومن يعارضونها، وكذلك على من وجدوا أنفسهم في مقاعد المشاهدين. وكما جاء في مقال «ذي أتلانتيك»، لكل ثورة منطقها الخاص، وقواعدها المتفردة، وارتباكها غير المسبوق.

متابعة ما يجري من ثورة غير مسبوقة وحروب وعدم استقرار اقتصادي وغيرها تحفز أدمغة المتابعين لانتهاج أحد نهجين: إما الإغراق في المتابعة، أو الفرار وتجاهل ما يجري.. لكن حين يكون المتابع جزءاً من الخبر، فهو لا يملك رفاهية الفرار. فهم الأمور عندما يبدو العالم وكأنه أفلت من قبضة المنطق أمر صعب، ولكن إمعان التمسك بقواعد الدولة الوطنية، وتقليل هوامش الاستقطاب والفتنة والوقوع في براثن الأخبار الكاذبة وادعاء المعرفة، خير وسائل التعايش في الزمن الصعب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد