: آخر تحديث

عقدة القوس الآسيوي

8
6
5

القصة أبعد من السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التلميذ المخلص لرائد التطرف اليهودي فلاديمير جابوتنسكي، وجد ضالته في أحداث السابع من أكتوبر، فأخرج من درج مكتبه الملفات التي يؤمن بها بالوراثة والفكر والعقيدة، تلك الملفات التي تحتوي على مخطط توسيع إسرائيل لتتطابق مع الخريطة التوراتية التي يدّعيها زوراً. ولتنفيذ واحد من أخطر المشاريع في المنطقة، كان في حاجة إلى حادث مأساوي يبدو مفاجئاً، لكنَّ لجنة التحقيق الإسرائيلية، التي يُعترض على تشكيلها، تثبت زيف هذه الرواية، إذ ثمة مؤشرات محتملة تؤكد أنه كان يعلم منذ زمن طويل، وهذا ما ستكشف عنه الأيام، بخاصة بعد طرد رونين بار من رئاسة الشاباك.

على أي حال، فإن السابع من أكتوبر، حسب الأدبيات الفلسطينية، كان من أجل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وقد عبّر عن ذلك متحدث باسم الفصائل الفلسطينية، حين قال: «الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين مقابل إفراغ السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين الذين يقبعون في المعتقلات منذ عشرات السنين». لكن نتنياهو لم يكن ينظر من هذه الزاوية، بل استدعى تلك الملفات الخطيرة التي لا تتوقف عند غزة الصغيرة (365 كيلومتراً مربعاً) والمكتظة بالسكان، بل كان يرنُو بعيداً إلى القوس العربي الآسيوي المحيط بإسرائيل، ذلك القوس الذي يبدأ من غزة والضفة الغربية مروراً بسوريا ولبنان، وصولاً إلى أبعد نقطة في الأردن والعراق، واليمن في خاصرة البحر الأحمر.

في غزة، أراد أن يجرّب أسلحته الأميركية الفتاكة، وساعدته على ذلك رواياته المزيفة عن أحداث السابع من أكتوبر، وتبني الولايات المتحدة لهذه السردية على لسان الرئيس الديمقراطي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، اللذين انضما إلى جانب إسرائيل في الحرب على غزة، وقد جاء بايدن إلى إسرائيل في وقت الحرب، وهو ما لم يفعله أي رئيس أميركي سابق، بل اجتمع في غرفة عمليات الحرب وفي مجلس الوزراء، فيما تكفل وزير خارجيته بلينكن بنقل السردية الإسرائيلية إلى العالم، مما سمح لنتنياهو باستخدام كل ترسانته العسكرية الفتاكة في قصف غزة ومؤسساتها الاجتماعية، من مستشفيات وملاجئ ومدارس ودور عبادة، من دون تفريق بين طفل أو شيخ أو امرأة، حتى وصل عدد الضحايا إلى أكثر من خمسين ألف فلسطيني، وأكثر من مائة ألف جريح.

إن بعض العقلاء في الشرق الأوسط رأوا منذ اليوم الأول أن نتنياهو لا يستهدف غزة وحدها، فقد كان يسعى إلى توسيع الحرب، فاشتبك في الشمال مع الجنوب اللبناني، الذي بدا كأنه يفتح جبهة إسناد للفلسطينيين، لكنّ نتنياهو، بمساعدة الدبلوماسية العالمية، والأميركية على وجه الخصوص، كان يترك ما تسمى «جبهات الإسناد» ويندفع نحو الفلسطينيين قتلاً وتدميراً، بهدفٍ عرفناه بمرور الوقت، وهو تصفية القضية الفلسطينية بالتهجير وإفراغ الأراضي التاريخية من سكانها الأصليين. إنها خطة قديمة منذ نشأة إسرائيل عام 1948، كانت تنتظر التنفيذ، فحسب مذكرات كل من غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل السابقة، وديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء، فإن خطة تهجير الفلسطينيين من أراضيهم تأجلت إلى حين وقت مناسب، وها هو نتنياهو ينفّذ الخطة على عجلٍ، ويصرّح بأنه يدير الشرق الأوسط، بل تمادى وقال إنه يدير النظام العالمي.

من هذا المفهوم، ينطلق نتنياهو إلى القوس الآسيوي المحيط بإسرائيل، فيحتكّ بالأردن ويدعو إلى تهجير الفلسطينيين إليه، رغم أن الأردن وقّع اتفاق وادي عربة للسلام مع إسرائيل عام 1994. ثم يتوجه شمالاً، معتدياً على لبنان، لإقامة سياج فاصل في أراضيه، بذريعة أن لبنان يشكل خطراً على أمنه، رغم علمه بأن جبهة الإسناد اللبنانية لم تكن لتؤثر عليه، لكنه يريد خلق مبرر لعبوره إلى مخططه. ورغم وجود القرار 1701 الذي يحدد الخط الأزرق، فإن الاعتداءات الإسرائيلية لا تتوقف على لبنان.

أما على الجبهة السورية، فإنه يوغل في قضم الأراضي السورية ولا يحترم اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، بل توغل بعد الخط الفاصل وصولاً إلى ريف دمشق، ولم يكتفِ بذلك، بل استغل الأوضاع السورية الملتبسة في نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وقصف مقدرات الدولة السورية، ودمَّر أسلحتها الاستراتيجية، وواصل الهجوم والغارات على جميع أنحاء الأراضي السورية، كما شنَّ أكثر من 20 غارة خلال 30 دقيقة، دمَّر خلالها 5 مناطق حيوية، مما يعني أنه يريد تفكيك محيطه من أي قوة قد تشكل مصدر تهديد لمشروعه الخطير.

يمتد القوس إلى العراق، فليس سراً أنه هدد بقصف العراق بدعوى أن الميليشيات العراقية تهدد الدولة الإسرائيلية، ولولا الوجود الأميركي في العراق لنفَّذ تهديداته بالفعل، لكنَّ الوضع في العراق يظل خطيراً، لأن نتنياهو يريد أن يقترب من هدفه الأبعد: إيران، وسابقاً اعتدى على العراق حين تجاوز على سيادته وأجوائه وقصف إيران من أراضيه.

يمتد القوس إلى أبعد من ذلك، ليصل إلى باب المندب واليمن، حيث يشتبك أيضاً بذريعة التهديد القادم من هناك. إن محاولة نتنياهو إشعال هذا القوس الآسيوي تهدف إلى رسم خريطة جديدة يجري التفاوض على حدودها تحت النار.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد