: آخر تحديث

الشرق الأوسط.. من يقرر الشكل الذي تكون عليه الحياة السياسية؟

4
4
4

الصورة السياسية للشرق الأوسط تبدو أكثر تعقيدا من ذي قبل، فالدارسون للمنطقة يعتقدون أنهم يقدمون كشفا واقعيا عن أصول الصراع في المنطقة من خلال تفسيرات تستخدم الأحداث المستجدة ونتائجها كمعطيات أصيلة لفكرة التغيير في المنطقة ومستقبلها، في الحقيقة أن المنطق التاريخي يقول إن الأحداث هي من تقود التغيير في الصورة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، فهذه المنطقة بنيت تفاعلاتها السياسية واتجاهاتها الدولية وفق نتائج الأحداث التي تجري فيها، فمثلا إعلان الكيان الإسرائيلي عام 1948م لم يكن في مقدمته سوى حدث عسكري فرض واقعا مختلفا هدفه إقامة دولة إسرائيل دون الالتفات للمعطيات الأخرى في معادلة الشرق الأوسط.

لم يكن هناك تفسير واحد مختلف عن تفسير فرض الواقع بهدف تغيير الجغرافيا واقتلاع الجذور في واحدة من أهم زوايا المنطقة واستبدال هذه الزاوية بساكن جديد، ومنذ تلك اللحظة وحتى الآن ما زال من الصعب علينا جميعا فهم أزمنة الشرق الأوسط الذي نعيش فيه وماهية مستقبله وكيف تحل معادلاته، ومن سيتمكن من تحليل هذه المنطقة ويفهمها برؤية واضحة مقارنة برؤية تقليدية يقترب عمرها من ثمانية عقود، الرؤية الأكثر واقعية تقول إن الشرق الأوسط اعتاد على أن يعتمد الأحداث الكبرى ويصنفها كنتائج لأزماته التاريخية ثم يبني فوق تلك الأزمات مسارته السياسية.

الصورة التي تقترب من أعيننا اليوم فيما تشهده سورية ولبنان تتمثل في محاولة جادة لجلب الرابحين والخاسرين في المنطقة إلى طاولة واحدة، وهذه الرؤية تحتاج إلى توقف؛ فمثلا تراجع إيران وأذرعتها هو جزء من معطيات معادلة الشرق الأوسط التي تتغير، ولكن ليس هذا كل شيء، لأن المشكلة الأعظم في هذه المنطقة هي نبتة الأيديولوجيات بشتى أنواعها والصراع في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم؛ صراع تتبناه الأيديولوجيات المتنافرة في بنيتها.

مشكلات الشرق الأوسط يتم استبدالها بشكل دوري، فما أن تخرج المنطقة من أزمة إلا وتجد نفسها في أزمة أخرى، مما يؤدي إلى ترسيخ الكثير من الأفكار السلبية مثل نظرية المؤامرة ونظريات السقوط، كل ذلك يستوجب تفسيره من خلال الخيارات التي تطرح أمامنا، فمثلا خيارات حكام الشرق الأوسط كانت واضحة في الرفض القاطع للمشروع الإسرائيلي وذلك قبل قيام إسرائيل ومحاولات اليهود اعتماد أرض فلسطين دولة لهم، وبعد قيام دولة إسرائيل تغيرت تلك الخيارات، حيث تبنى القادة العرب تحديدا فكرة الصراع المسلح وشهد الشرق الأوسط عدة حروب يعرف الجميع نتائجها.

ثم تحولت تلك الخيارات في السبيعنات الميلادية من القرن الماضي إلى خيارات سلام هدفها استعادة الواقع الجغرافي الذي انتجته تلك الحروب لدول عربية، واستمر نهج السلام مطروحا ولكنه كان محصورا في مساحات محيطة بإسرائيل، ثم أتى العام 2010م عندما بدأت الثورات العربية التي حملت إلينا أيديولوجيا مختلفة هددت الكثير من المساحات الجغرافية في المنطقة وكان الهدف من دعم هذه الأيديولجيات وخاصة من أميركا هو تغيير الاتجاه في المنطقة لمفهوم عاطفي ارتبط بالأفكار التقليدية، وقد فشل هذا المسار ليتم استبداله في العام 2020م بمفهوم مختلف هو الاتفاقات الإبراهيمية بهدف توسيع فكرة السلام إلى حدود أبعد من تلك القريبة من مناطق الصراع.

اليوم نشهد أحداثا كبرى في الشرق الأوسط تسهم في تعقيدات المشهد في المنطقة وخاصة في قدرتنا على الوصول إلى تعريف موحد لمعادلة الشرق الأوسط، فالنظام السياسي الذي شهده الشرق الأوسط خلال العقود الثمانية الماضية يدخل مفترقا جديدا، فالأزمة التي انطلقت من فلسطين عادت إليها في السابع من أكتوبر 2023م، ولعل السؤال الأهم اليوم يدور حول المخاطر التي نشأت كنتيجة لعودة دائرة الصراع من حيث ابتدأت، لأن فكرة الشرق الأوسط الجديد بهذا المسار يمكن تفسيرها كعملية يتم من خلالها تدمير القواعد السياسية للمنطقة.

الشرق الأوسط بحاجة إلى الاستقرار، وهذا الاستقرار بحاجة إلى سلام، والسلام بحاجة إلى واقع مناسب يولد فيه، ومفهوم الشرق الأوسط الجديد يجب ألا يدفع إلى تناسي معطيات السياسة العادلة، الفكرة التي تدفع بها المنطقة نحو الأمام إنه لا يمكن لأحد وبقرار منفرد أن يقرر الشكل الذي يجب أن تكون عليه الحياة السياسية في المنطقة دون إسهامات جماعية عبر البحث عن أساليب وحلول مختلفة للعيش والتعايش، وبأساليب تولي اهتماما بحاجة المنطقة ودولها وشعوبها بدلا من فرض أسلوب سياسي ضاغط يطالب فقط بتقدم المزيد والمزيد دون تنازلات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد