: آخر تحديث

كندا وغرينلاند وبنما في مرمى نيران ترمب

2
2
2

عاد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يملأ العالم بمواقفه اللافتة ويشغل الناس، وهو لم يتسلم الحكم رسمياً بعد. ففي مؤتمر صحافي عقده هذا الأسبوع هدَّد ثلاث دول بالضم: كندا جارته الضخمة في الشمال، وغرينلاند الجزيرة المهمة في القطب الشمالي والتي تعود للدنمارك، ويحمل مواطنوها الجنسية الدنماركية على الرغم من إدارتها الذاتية، وبنما التي هدَّدها بالاستيلاء على القناة.

فعندما سئل إذا ما كان يمكنه طمأنة العالم أنه لن يستخدم القوة العسكرية أو الاقتصادية للسيطرة على قناة بنما أجاب: «لا، لا أستطيع الطمأنة على أي من هاتين المسألتين. لكني أستطيع القول إننا نريدها للأمن الاقتصادي».

ومع أنه لمَّح لفكرة جعل كندا الولاية الـ51، فإن هذا التهديد لكندا لا يحمله الكثيرون على محمل الجد. وموضوع قناة بنما التي أعادتها أميركا لبنما في اتفاقية وقَّعها الرئيس الأسبق جيمي كارتر عام 1977، وعدّها ترمب «عاراً» ارتكبه كارتر، له جانب اقتصادي وجانب أمني جيو-استراتيجي.

اقتصادياً، ترمب يعبِّر عن غضب أميركي؛ بسبب رفع بنما رسوم مرور السفن الأميركية في القناة، وهو يطالب بخفض هذه الرسوم، وإلا فإن أميركا ستستحوذ على القناة من جديد. أما السبب الآخر الأمني فهو اتهام ترمب بأن هناك نفوذاً صينياً متزايداً في القناة وهو أمر تنفيه بنما نفياً تاماً. وتقول التقارير إن كل ما في الأمر هو أن هناك شركة مركزها الرئيسي في هونغ كونغ، تقوم بإدارة مرفأين على القناة، وهو ما يعدّه خبراء أميركيون تهديداً؛ لأن هذه الشركات يمكن أن تقوم بالتجسس على السفن والشركات الأميركية. لكن السبب يمكن أن يكون أيضاً في غضب الرئيس ترمب من بنما التي سحبت عام 2017 اعترافها بتايوان، واعترفت بالصين، وأقامت علاقات معها معترفة بـ«صين واحدة».

لكن موضوع قناة بنما مثل موضوع كندا يمكن أن يكون صفحة من كتاب التفاوض للرئيس ترمب، ويمكن أن يتم إيجاد حل له عبر تخفيض الرسوم، أو عدم التوغل أكثر في علاقة مع الصين.

لكن الموضوع الأهم هو موضوع جزيرة غرينلاند ذات الموقع الجغرافي والاستراتيجي المهم لأميركا في تنافسها على القطب الشمالي مع روسيا والصين، والملاحة الدولية. وخبراء السياسة الدولية هنا يلحون على واشنطن أن تحكم سيطرتها أكثر على غرينلاند لضمان أمنها القومي. فمستشار الرئيس ترمب السابق عدّ غرينلاند «الطريق السريع (هاي واي) إلى أميركا الشمالية والولايات المتحدة. إنها مهمة جداً استراتيجياً للقطب الشمالي الذي سيكون أرض معركة المستقبل؛ بسبب تغير المناخ الذي يجعل المنطقة دافئة، وربما يكون الطريق الذي يُخفِّض الحاجة إلى قناة بنما». ودعا أوبراين الدنمارك إلى بيع غرينلاند لأميركا لتضمها إلى ألاسكا إذا كانت عاجزة عن الدفاع عنها. والجزيرة الأكبر في العالم مهمة؛ بسبب مواردها الاقتصادية الكبيرة التي تحتاجها أميركا، خصوصاً لصناعة البطاريات للسيارات الكهربائية وغيرها من المعادن النادرة.

واهتمام أميركا بغرينلاند ليس جديداً. فخلال الحرب الباردة وقَّعت أميركا اتفاقاً دفاعياً مع غرينلاند عام 1951، والذي أعطى واشنطن حقوق إقامة قواعد عسكرية ومنشآت للدفاع؛ مما أعطى غرينلاند أهمية داخل حلف شمال الأطلسي، وهذا سمح لواشنطن بإقامة قاعدة «بيتوفيك» الفضائية، التي تعدّ حجر أساس في القدرات الاستراتيجية الأميركية في القطب الشمالي، وهي قاعدة إنذار مبكر للحماية من أي صواريخ عابرة للقارات، أو أي تهديد جوي لأميركا القريبة جداً من الجزيرة.

واهتمام الرئيس ترمب بها غير جديد أيضاً. فخلال ولاية حكمه الأولى، وحسب كتاب الصحافيَّين بيتر بيكر، وسوزان غليزر، حول ترمب، كشفا عن أن صديق ترمب رونالد لاودر، صاحب شركة «إستي لودر» للعطور اقترح على ترمب شراء الجزيرة، وعرض أن يلعب دور الوسيط مع الدنمارك. وأجرى فريق ترمب يومها اتصالات بالسفير الدنماركي في واشنطن؛ للحديث حول الأمر، وتم وضع عرض رفضته الدنمارك، وتسبب ذلك حسب الصحف بإلغاء زيارته للبلاد.

الغريب أنه يجري الحديث عن بيع وشراء غرينلاند دون ذكر أصحابها الأصليين المدعوين الإينوي، وعددهم صغير لا يتعدى 56 ألف نسمة، لكنهم لا يريدون أن يُعاملوا بوصفهم سلعةً بين قوتين، واحدة أوروبية، وأخرى أميركية، على ملكية أرضهم. وكانت غرينلاند قد وضعت استراتيجيتها السنة الماضية تحت عنوان «لا شيء عنا دوننا»، وردّ رئيس حكومتها على كلام الرئيس ترمب بالقول: إن بلاده ليست للبيع.

والرئيس ترمب الذي أرسل ابنه الأكبر، رونالد جونيور، إلى غرينلاند ليتحدث عن استثمارات هناك، كان يخاطب الدنمارك في مؤتمره الصحافي عندما شكك في قانونية حق الدنمارك بالجزيرة وقال: «الناس لا تعرف إذا كان للدنمارك حق في غرينلاند. لكن إذا كان لديهم حق بها فيجب أن يتنازلوا عنه، لأننا نحتاجها لأمننا القومي». مستشاره الجديد للأمن القومي أيضاً قال: «نحتاج غرينلاند لأمننا القومي».

وتزداد أهمية غرينلاند الاستراتيجية والاقتصادية كلما ازداد تأثير التغير المناخي الذي يذيب الثلج القطبي حول الجزيرة، ويفتح خطوط ملاحة دولية تجارية تُخفِّض المسافة بين أوروبا والشرق الأقصى إلى النصف تقريباً، مما سيحدُّ من أهمية قناة بنما للملاحة والتجارة الدولية. وواشنطن قلقة من التعاون الروسي الصيني في القطب الشمالي، وازداد هذا القلق من خطط الصين التي تسمي نفسها «دولة قريبة من القطب الشمالي»، لأنها تريد خلق «طريق حرير قطبي» ملاحي.

غرينلاند، وحسب استراتيجيتها، تريد تقوية العلاقة مع جيرانها في الولايات المتحدة وكندا. وكانت قد افتتحت مكتباً تمثيلياً لها في واشنطن عام 2014، وتعمل على افتتاح مكاتب تمثيلية في الأمم المتحدة، وتسعى لجلب الاستثمار للبلاد.

بعد الرد الصارم للدنمارك على الرئيس ترمب، عادوا وخففوا اللهجة، معترفين بمخاوف واشنطن الأمنية. هذا يعني أن أسلوب ترمب التفاوضي ينجح، ومن المستبعد أن نرى الحليفين الأطلسيَّين يتنازعان على منطقة حيوية للدفاع عن الحلف بأكمله. ربما نرى تقوية لاتفاق الدفاع بين واشنطن وغرينلاند تترافق مع استثمارات تحتاج إليها البلاد، فتصبح غرينلاند كما قال ترمب «عظيمة من جديد»، فتدخل في فلكه دون الخروج من تحت جناح الدنمارك.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد