محمد الرميحي
رئيس وزراء بريطانيا العمالي الجديد، كير ستارمر، في أقل من شهرين من حصول حزبه على الأغلبية في مجلس العموم، في الخامس من يوليو 2014، بدأ التجوال في بلدان أوروبا، من أجل (التحالف الاقتصادي) بين بريطانيا والجيران الأوروبيين، كما قال.
وقبل سنوات، خاض المجتمع السياسي البريطاني حرباً شعواء، بين المطالبين بالخروج من السوق الأوروبية، والساعين لوضع أفضل لبريطانيا فيها، وجرت المزايدة السياسية، إلى درجة أن المجموعة المتشددة من حزب المحافظين حصلوا، بقيادة بوريس جونسن، على أغلبية في انتخابات عام 2019، مكنتهم من الخروج في نهاية الأمر من السوق الأوروبية، مع ترحيب من العامة، على الرغم من أن أهل الاختصاص وقتها، مثل محافظ البنك المركزي، وشخصيات وازنة، من مثل توني بلير رئيس وزراء عمالي سابق، وجون ميجر رئيس وزراء محافظ سابق، جميعهم كانوا ضد الخروج من السوق، وبينوا وجهة نظر عقلانية.
حتى في بلد متقدم مثل بريطانيا، الشعبوية في كثير من الأوقات تتخطي المعقولية، بل وحتى المصالح التي تخدم الناس، فقد كانت حملة شعواء حشدت العامة ضد الارتباط بالسوق الأوروبية، وسيقت الكثير من المعلومات المضللة حول مضار استمرار الارتباط، في مثال واضح على أنه حتى في المجتمعات المتقدمة، يمكن اختطاف الرأي العام، وأخذه ضد مصالحه. في هذه الفترة ترك أكثر من رئيس وزراء منصبه، ومزق المختلفون بعضهم بعضاً، حتى في نفس الحزب، وأصيب الاقتصاد البريطاني بالعجز.
ما إن خرجت بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة، رغم الامتيازات التي كانت لديها، مثل احتفاظها بعملتها الوطنية (الجنية الإسترليني)، وعدم دخولها في اتفاقية الحدود (شنغن)، إلا أن ذلك لم يكن مقنعاً لبعض السياسيين، وأخذوا البلد، من خلال المزايدة، إلى مكان سرعان ما تبين للجميع الأضرار الاقتصادية الضخمة التي خلّفها، والتي جعلت في نهاية الأمر الاقتصاد البريطاني يسخن إلى درجة تجاوز التضخم لأكثر من 10 %، والبطالة تقريباً لنفس النسبة، عدى ارتفاع أسعار السلع والخدمات التي كانت قادمة من السوق الأوروبية، وفقدان يد عاملة، خاصة الموسمية في الزراعة، ما أثر في أسعار الغذاء، وصعوبة تصدير المنتجات البريطانية، حيث فقدت الصناعة سوقاً ضخمة مفتوحة.
اليوم، ستارمر يعود من جديد للبحث عن صيغة ارتباط بين بلاده والسوق الأوروبية، ماذا يعني ذلك؟.
المعنى الأكثر وضوحاً، أن العالم متشابك، وأن المصالح تتحقق بشكل أفضل من خلال توسيع السوق، وتشجيع التبادل الاقتصادي، حيث لا يوجد اقتصاد في عالم اليوم يمكن أن يكون مستقلاً عن الآخرين، الكل يعتمد على الكل، بربط الاقتصاد، ترتبط المصالح الأمنية.
لذلك، فإن الأصوات الانعزالية في منطقتنا العربية، عليها إعادة النظر في أطروحاتها، مهما كانت شعارات الانعزالية مغرية للبعض، وبياعة في سوق السياسة.
في منطقة الخليج، الترابط الاقتصادي والتقني والإنساني استراتيجية لا غنى عنها، ليبقى الجميع في وضع أفضل، ومن المفروض ترسيم حدود بين (التنافس)، وهو في بعض منه صحي، وبين الصراع والخلاف، وكله مضر. فبجانب الفوائد الاقتصادية التي يمكن أن تتحقق لشعوب منطقة الخليج من الترابط الاقتصادي الوثيق، فإنها أيضاً تشكل تكتلاً ضد طموحات الآخرين، وهم كثر، لمنع التأثير السلبي على مجريات الأمور، والإضرار بالمصالح الحيوية للمجموع، وبالتالي، يتحقق الأمن الإقليمي.
مخطئ من يعتقد أنه يمكن أن يطور مجتمعه، ويحقق التنمية في إطار بلده، بعيداً عن التعاون مع الجيران المباشرين، مهما كانت خزينة الدولة عنده متخمة بالمال.
لذلك، فإن أصواتاً كثيرة منذ زمن، ترى أن التنمية في دول الخليج يمكن أن تنجح وتؤتي ثمارها بشكل أفضل في التعاون الوثيق بين دوله، ويتطلب إبعاد عناصر التأزيم وعدم التحالف مع قوى لها أجندات مخلة بالأمن الجماعي، حتى لو وجدت تكتيكياً أن لها مصلحة مؤقته معها، لأن ذلك سوف يكون مدخلاً للتنافر.
فإن كانت قوى كبرى تسعى اليوم، من أجل مصالح شعوبها، للتقارب مع جيرانها في الاقتصاد والأمن، فإن الدول الأخرى والمتماثلة، حري بها أن تذهب إلى ذلك التفكير بجدية.