ماجد كيالي
خلال نحو 11 شهراً، لم تعمل إسرائيل على قتل عشرات آلاف الفلسطينيين، وحرمان أكثر من مليونين منهم من حاجاتهم الحياتية الأساسية، والسعي إلى التخلص من كتلة كبيرة منهم بطردهم بطريقة "طوعية" أو قسرية، فحسب، بانتهاجها حرب إبادة جماعية ضدهم في قطاع غزّة، إذ تقصّدت أيضاً قتل هذا القطاع تماماً، بجعله منطقة غير صالحة للعيش، وبإعادة هندسته جغرافياً وديموغرافياً وسياسياً.
وهذا يشمل تقطيع أوصال القطاع الصغير بمساحته البالغة 365 كيلومتراً مربعاً، وهو بمثابة مدينة كبيرة تحتوي مدناً وبلدات عديدة، أهمها في الشمال غزّة (المدينة) وجباليا وبيت حانون، وفي الوسط دير البلح، وفي الجنوب خان يونس (كبرى المدن بعد غزّة) ورفح. كما تضم مخيمات للاجئين الفلسطينيين، هي جباليا، والشاطئ، والنصيرات، ودير البلح، والمغازي، والبريج، وخانيونس، ورفح، إذ يعتبر قطاع غزّة أهم تجمع للاجئين الفلسطينيين، الذين يشكلون نحو ثلثي سكانه، و27% من العدد الكلي للاجئين الفلسطينيين في العالم (منذ عام 1948).
هكذا، فصلت إسرائيل شمال القطاع عن جنوبه، من وسطه، من خلال "مفرق الشهداء" (تسمّيه إسرائيل محور "نتساريم" باسم مستوطنة سابقة)، طوله 7 كيلومترات من الشرق إلى الغرب إلى الساحل، وباتت توسّع عرضه إلى نحو 4 كيلومترات، لترسيمه كمنطقة عازلة وفاصلة، وكمنطقة عسكرية، علماً أنها اشتغلت عليه سابقاً في السبعينيات، للتضييق على تواصل فلسطينيي غزّة.
أيضاً، تحاول إسرائيل عزل غزّة وتشديد الحصار على الفلسطينيين فيها، من خلال سيطرتها على محور صلاح الدين (تسمّيه محور فيلادلفيا) وطوله 14 كيلومتراً، من الشرق حيث معبر كرم أبو سالم إلى الغرب حيث رفح، وهو يشكل الحدود بين القطاع ومصر، بدعوى أنه يشكل منفذاً لتهريب السلاح إلى غزّة، علماً أن ذلك يتناقض مع اتفاقية كامب ديفيد المصرية - الإسرائيلية. ولعل ذلك يفسّر تحوّل هذين المحورين إلى عقدة كأداء في المفاوضات مع إسرائيل، التي تريد السيطرة الأمنية عليهما. فالمحور الأول يجعلها تتحكم بالحركة من الشمال إلى الجنوب، في حين يسمح لها المحور الثاني بالسيطرة على الحدود بين غزّة ومصر.
ثمّة ما يُفيد، أيضاً، بأن إسرائيل تحاول، أيضاً، الفصل بين وسط القطاع وجنوبه، أي فصل دير البلح في الوسط عن خان يونس ورفح في الجنوب، بحيث يصبح القطاع مقسماً إلى ثلاثة مناطق، شمال ووسط وجنوب، إضافة إلى الفصل بين قسميه الشرقي والغربي بواسطة شارع صلاح الدين، العابر للقطاع في وسطه، من الشمال إلى الجنوب.
إضافة إلى ذلك، فقد تعمدت إسرائيل تجريف معظم شوارع القطاع، لا سيما أهم وأكبر شارعين يقطعان غزّة من الشمال إلى الجنوب، مروراً بعدد من المدن، وهما شارع صلاح الدين الذي يُعدّ أقدم الطرق في العالم، والذي يتوسط القطاع، ويقسمه إلى نصفين، شرقي وغربي، كما ذكرنا، وطوله 45 كيلومتراً، من معبر إيريز في الشمال إلى رفح جنوباً، وشارع الرشيد، وهو الشارع الغربي الذي يعبر القطاع على امتداد ساحله على البحر الأبيض المتوسط، وطوله 43 كيلومتراً، ويمرّ بمدن بيت لاهيا وغزّة في الشمال وصولاً إلى رفح في الجنوب. بيد إن ما يجب الانتباه إليه، أيضاً، في هذا السياق، هو أن إسرائيل رسمت مناطق عازلة على طول الحدود مع قطاع غزّة، من الشرق والشمال والجنوب، بعرض 1 إلى 2 كيلومتر، بما يجعلها في المحصلة تضع يدها على أكثر من ثلث مساحة القطاع، عدا عن سعيها إلى فرض هيمنتها الأمنية على القطاع بكامله.
من جهة أخرى، فإن إسرائيل، طوال الفترة الماضية، لم تُفلح في طرد عدد كبير من الفلسطينيين، بسبب ممانعة الحكومة المصرية لهذا التوجه، وضغوط المجتمع الدولي، علماً أن نحو 200 ألف فلسطيني غادروا القطاع في مناخات الحرب. إزاء ذلك، اشتغلت إسرائيل على تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش لنحو 2,2 مليون من الفلسطينيين، بحرمانهم من الماء والغذاء والكهرباء والوقود والدواء والمأوى، والتضييق على برامج المساعدات الدولية، ما أمكن.
لكن إسرائيل لم تكتفِ بكل ما تقدم، فهي في إعادتها هندسة القطاع، عملت أيضاً على وضع الفلسطينيين فيه تحت تهديد مباشر ودائم بالنيران، وبإجبارهم على التنقل الدائم بين منطقة وأخرى بشكل مأساوي وغير مسبوق، بدعوى مناطق آمنة هي غير متوافرة أصلاً، لتعمد إسرائيل إلى قصف المدارس والمستشفيات والجامعات والمخيمات والطرق وكل شيء.
هكذا، مثلاً، باتت تدفع بنحو مليون ونصف فلسطيني في الوسط والجنوب للإقامة في شريط ضيق، كان يشكل 63% من مساحة القطاع في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي. وإذا بها بعد اجتياحها خان يونس في مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي تقلصها إلى 38% من إجمالي مساحة القطاع، ثم قلّصتها مجدداً في أيار (مايو) الماضي إلى 20%، ووصلت في آب (أغسطس) الحالي إلى 9.5%، أي 36 كيلومتراً مربعاً، وهي مساحة ضيقة جداً وتفتقد للموارد، كما تفتقد للأمان بحجة محاربة إسرائيل لحركة "حماس". وهكذا، مثلاً، وبحسب بعض التقارير، فإن عدد الموجودين حالياً في مدينة دير البلح (في وسط القطاع) هو قرابة مليون فلسطيني، في حين كان عدد سكان المدينة ومخيمها قبل الحرب الإسرائيلية قرابة 100 ألف.
وفي ما يخص الشمال، أي مدينة غزّة وجباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، فثمة نحو 700 ألف فلسطيني يعانون من فقدان القدرة على تأمين حاجاتهم الأساسية، مع تحكّم إسرائيل بكل شيء، إضافة إلى افتقادهم للأمان.
وكانت لويز ووتريدغ، المسؤولة في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، قد شرحت هذا الوضع المأساوي بقولها: "الموت يبدو ’الأمر الوحيد المؤكد‘ بالنسبة إلى سكان قطاع غزّة، البالغ عددهم 2,4 مليون نسمة، في ظل القصف الإسرائيلي المتواصل... لا يوجد مكان آمن في غزّة، الحياة هناك تحولت إلى انتظار حتمي للموت" (21 آب - أغسطس 2024).
باختصار، إنّ تفاقم الأمر بالنسبة إلى الفلسطينيين، إضافة إلى افتقادهم للأمان والحاجات الأساسية للعيش والمأوى والظروف الصحية، وفي غياب المستشفيات والأدوية، وفي حال الدمار وتراكم الأوساخ والتخريب الحاصل للبيئة، يعرّضهم لمخاطر الأمراض المعدية والأوبئة المميتة. إنها حرب إبادة جماعية وحشية ومدمرة وقذرة أيضاً.