لم تترك الفلسفة مسألة المصادفة في حالها. لم تكتف بتناولها فحسب، وإنما جعلت منها إحدى مقولاتها وهي تقيم ثنائية المصادفة (أو الصدفة) والضرورة. الضرورة، وفق الفهم الفلسفي أمر حتمي الوقوع، لا مناص منه. سياق التحولات الجارية، أكانت في الطبيعة أو في المجتمع أو ربما حتى في الذات الإنسانية، ستقود إلى نتيجة بعينها، هي تلك التي تسمى الضرورة، أما المصادفة فقد تحدث وقد لا تحدث، وفي الحالين يكون لها أثرها، فإن حدثت فإنها تؤثر في مسار الحتمي أو الضروري بنسبة ما، وفي حال لم تحدث يكون لذلك أيضاً أثره.
الفلسفة متاهة، ولسنا راغبين الآن في التيه. يكفينا التيه الذي نحن فيه على غير صعيد، ولكن ليتأمل الواحد في مسار حياته، وليقف، أولاً، عند محطاتها الحاسمة، أو الفاصلة، في مجرى هذه الحياة، ألن يلاحظ أنها، وإلى درجة كبيرة، نتاج المصادفة؟ حاولت أن أجرب ذلك على نفسي، فخلصت إلى أن أروع الناس الذين عرفتهم وجمعتني بهم مودة ومحبة وعشرة التقيت بهم مصادفة، لا هم سعوا، ولا أنا سعيت إلى أن نلتقي، فلا معرفة سابقة لي بهم، ولكن المصادفة هي التي أهدتنا اللقاء، وما نجم عنه من معرفة وعشرة تالية. يكفي لقاء، قد يكون عابراً، أن يؤسس لصداقة أو عشرة ممتدة، وهذا اللقاء العابر من صنع المصادفة في الأغلب الأعم.
إلى درجة معينة نحن نتاج ما سعينا إليه أو خططنا من أجله، لكننا بمقدار قد يزيد نتاج العرضي في حياتنا، غير المدروس وغير المخطط له ولم نسع إليه بوعي. حدث عارض، مفاجئ، غير متوقع، يصبح أساسياً في حياتنا، ويشكّل، إلى درجة كبيرة، مسارها، أو على الأقل جوانب رئيسية من هذا المسار، بدءاً من الكلية التي وجدنا أنفسنا ندرس ونتخرج فيها مع أننا كنا نرغب لو أننا درسنا تخصصاً آخر، وانتهاء بمكان العمل الذي ساقتنا إليه الأقدار. العرضي لا يبقى عرضياً دائماً، فالأحداث حتى لو بدت بسيطة قابلة لأن تكون سبباً في أمورٍ تليها قد تكون أكثر أهمية منها.
المصادفة لا تحقق المعجزات بالضرورة. لكي تعطي أُكلها يجب أن يتوفر بمن قدر لهم أن تشملهم برعايتها الاستعداد لذلك. والغريب أن تحديد المهم وغير المهم من جهة، وتحديد العرضي والمدروس أو المخطط له من جهة أخرى هو أقرب إلى الأمور المسكوت عنها منه إلى الأمور المفصح عنها، فلا بأس لو أخذنا بنصيحة مكسيم غوركي في عقد «خلوة مع الذات»، قد تقودنا إلى أننا نتاج المصادفة أكثر مما نحن نتاج السعي المدروس، كأن المصادفة، هنا، هي من خلق الضرورة.