: آخر تحديث

الشاعر الفيلسوف

12
12
11

مع خطوات الإنسان المعاصر اللاهثة وراء الغد وأفعال المستقبل يظل الشعر أحد أهم مكونات الجوهر الإنساني. فهو كوّة من الأمس والغد.. الأحلام والذكرى.. الأثر والخلود، والحقيقة ورحلة البحث عنها، فالشعراء الذين يقومون برحلات متتابعة نحو الجوهر الإنساني ثم لا يعودون منه إلا ببخور أرواحهم، سيبقون دائماً أحد أهم مصادر توثيق الوجود حين يتركون في قصائدهم يومهم وفي تداعياتهم أمسنا جميعاً وفي استشرافهم ما لا نراه دونهم. لكنّ بين الشعر والفلسفة ثمة تقاطعات تاريخية لا يمكن إغفالها ولا تجاوزها لعلّ أكثرها وضوحا وتأثيراً ما كان عليه أبو العلاء المعرّي بكل ما يعتري سيرته من اختلاف انعكس على شعره ورؤياه معاً، أو حتى ما كان عليه الصوفيون الذي قدّموا أطروحاتهم الفلسفية عبر الشعر كابن عربي والحلاّج وحتى جلال الدين الرومي. إذا بعيدًا عن المنهج وقريباً من فوضى الرؤيا أقف هنا بين الشعر والفلسفة دون أن أدّعي الانحياز لأحدهما حينما لا يدّعيني.. ويبدو أن هذا العصر التجريبي الصرف حيث التجربة والبرهان والإثبات والمنهج العلمي مع سرعة الإيقاع الزمني وتطوّر اللحظة وتكيّفها مع ابتكارات واختراعات إنسان هذا الزمن ومحاولاته التي لا تنتهي في استكشاف وجوده، دفع كلاً من الشعر والفلسفة إلى الاتحاد لمواجهة التجربة والبرهان والقفز إلى النظرية التأملية طويلة المدى التي يتخلق فيها الوجود بكل معطياته.. هذا الاتحاد الخاص جعل من الفلسفة جسداً للقصيدة بينما شكلت اللغة الشعرية ملامحه.. والتفكير بهذا الاتجاه سيجعلنا نجزم على أنه واحد من أكبر الأزمات التي تواجه القصيدة المعاصرة.. وهي أزمة حضور فقط لا أزمة وجود.. فالفلسفة جرّت الشعر إليها عن طريق تغيير ملامحه المتوارثة.. عبر قصيدة النثر المعاصرة التي جاءت غالباً بما يشبه أطروحات الحكماء والفلاسفة القدماء.. مما يعني أن حضورها شهد تغيراً جوهرياً على مستوى الشكل والمصافحة معاً.. هذه الحقيقة الماثلة للمتابع الجاد لمفهوم الشعر دفعت كثيراً من التجارب الواعدة إلى الوقوف عند المنجز الشعري القديم وتكراره بصورة ممجوجة في محاولة لاستعادة سلطته القديمة على المتلقين عبر الخطابية والمنبرية الإيقاعية المملة في عصر لا يمتلك الوقت للرقص مع الإيقاع، ولا اتخاذ الشعراء وسيلة إعلامية لقول ما يريدون، وترديد ما يحبون سماعه فيهم وعنهم، وقد أتيح لي كغيري الاطلاع على عدد وافر من التجارب الواعدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لاسيما في المناسبات التي يتجلّى فيها الشعر ويحضر كرافد نوعي لتوثيق اللحظة والمبارزة فيها، ثم انفتحت على غياب مفهوم الشعر المعاصر وتجلياته الجديدة عند جُل التجارب التي تحاول أن تستثمر اللحظة وتتنافس فيها وعليها.. وهي رؤية خاصة لا أعممها على الرغم من أن هذه التجارب أو تلك تحظى أحيانا بدعم عام فرضته إخوانيات مواقع التواصل الاجتماعي بكل ما يعتريها من مجاملات وشللية في أغلب الأحيان، أقول لاأعممها حينما أؤمن بها تماماً كما آمنت من أن الشاعر الآني لم يعد ذلك الخطيب المؤثر ولا الواعظ ولا المرشد ولا بوق الزعيم ولا حتى ذاك الذي يكذب فنصدقه ثم يكذب أكثر فنعطيه.. ثم نلقي عليه بأحداثنا وتواريخنا وأيامنا فيحملها على ظهره الذي قوّسته السنين فداهنها واستمرأ فيها قول ما لا يفعل وفعل ما لا يقال.. لكنّ الشاعر المعاصر هو ذلك الإنسان العادي الذي يأكل ويشرب ويتصفّح الصحيفة ويشاهد التلفاز ويستمع لفيروز ثم يعيد صياغة يومه وتفاصيله وأشيائه الصغيرة بصورة جمالية تحاور النجوم والعصافير والغيم وتتعلّق حتى بريشة دائخة مع الريح في قرية غادرتها عصافيرها منذ فجر جفافها الأول وهو بهذا يتماس بصورة أو بأخرى مع الجوهر الإنساني.. ذلك الجوهر المشعّ والحارق والمتوهج وما بلغه شاعرٌ إلا وعاد لنا منه بخوراً للتاريخ..!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.