أكنت تسأل حقًّا يا «متنبي» وتنتظر الإجابة أيها الحكيم، حين أرسلت بيتك القلق المُقلق:
عيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟
بما مضى؟ أمْ لأمرٍ فيكَ تجديدُ؟!
تركته هكذا معلّقًا في باب الحسرة المستدامة، والاستدعاء الأسيف كلما انصرم شهر الصوم، وتباشرت في الأفق طلعة شهر شوال، وسرّبت لنا عبره ما انطوى في قلبك من حزن وكمد وأسى، حصيلة ما أحرزته من طموحك اللجوج، ومطمعك البدد.
كأنّي أراك الآن في ذلك الليل الآبد الموحش، في ليلة العيد، وقد جمعت أمرك على الفرار من مصر، وقبضة كافور الإخشيدي.
كأنّك أودعت صمت الليل المطبق زفرتك الحرى، ونفثتك المصدورة بالغيظ، وتركتها مائرة بالغضب الفوار في جوف تلك القصيدة الضاجة بالهجاء.. ولم تحس ببهجة العيد، ولا إشراقه، وأن تزجر دابتك في طريقٍ لم تستبنْ لك وجهته بعد، والشوق يغالبك إلى سيف الدولة، و«كرامتك» تزجرك
وصبح العيد يكاد ينبلج عن وجهك الكدر في تيه الصحراء المترامية على مدّ البصر، ونوازع النفس تئزّ في داخلك بكل تلك الأحاسيس المتناقضة:
أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ
وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
أَما تَغلَطُ الأَيّامُ فيَّ بِأَن أَرى
بَغيضًا تُنائي أَو حَبيبًا تُقَرِّبُ
وَلِلَّهِ سَيري ما أَقَلَّ تَئِيَّةً
عَشِيَّةَ شَرقِيَّ الحَدالَي وَغُرَّبُ
عَشِيَّةَ أَحفى الناسِ بي مَن جَفَوتُهُ
وَأَهدى الطَريقَينِ الَّتي أَتَجَنَّبُ
ما أقسى أن يكون أهدى طريقك ما تتجنب، والأحفى بك من جفوته، فماذا أبقيت من ندمٍ لذي أسى؟!
لم أجد مناظر لك في هذا الحزن الممض، والأسى المتلاف في يوم العيد، إلا حزن صاحبك المعتمدُ بن عبّاد بعد زوال ملكه، ونفيه إلى «أغمات» بأرض المغرب؛ حين جرت دمعته أسىً على بناته وهو ينظر إليهن في يوم العيد جائعات عاريات حافيات، فخلّد تلك اللحظة الخبيئة بالأسى في مونولوج شعري حزين
فيما مَضى كنتَ بالأعيادِ مسرورا
وكانَ عيدُك باللّذاتِ معمورا
وكنتَ تحسبُ أنَّ العيدَ مسعدةٌ
فساءَك العيدُ في أغماتَ مأسُورا
ترى بناتَك في الأطمارِ جائعةً
في لبسهنّ رأيتَ الفقرَ مسطُورا
معاشُهنَّ بُعيدَ العــزّ ممتهنٌ
يغـزلنَ للناسِ لا يملكنَ قِطميرا
أفطرتَ في العيدِ لا عادت إساءتُه
ولستَ يا عيدُ منّي اليومَ معذورا
وكنتُ تحسبُ أنّ الفطر مُبتَهَـجٌ
فعادَ فطرُك للأكبــادِ تفطيرا
هذا النسيج القاطر بالأسى والحزن من ذات نولك ومنسج قولك يا أيها الحكيم، وكأنك أعديت ابن عبّاد بقولك «عيد بأية حال عدت يا عيد؟..»، واعدتيني معه أيضًا.. فها أنا أباشر طلعة العيد، وبيتك هذا – كما كان سابقًا – يلاحقني، ويثرثر بوقعه الكئيب على جناني.. من دون كل ما حفظته لك من بديع شعرك، تمنيت لو أني تجاوزت هذا البيت وعبرته بغير كثير تفكير وتأمّل، فلا أراه إلا بمثابة «مفتاح» كلما خالط بشاشة اللحظة فتح لها أبوابًا من الشجى والحزن، وما أكثر الأحزان..
لكني اللحظة أحتاج فرحًا مكافئًا لطلعة العيد، أحتاج فرحًا أعبر به حزني على فقد أخي «أيمن» في عيدي وهو ليس معي، أحتاج فرحًا أنسى به هذا الهم المتراكب والمتراكم في قلبي.. فرحًا بالعيد المبهج، والسرور المنبعث رجاءً في الله بمقبول الصوم، ومأجور العمل والطاعة، بفائض كرمه وسابغ عفوه ولطيف تجاوزه.. فرحًا أباكر به صباحًا مورقًا أطل، وعيدًا بشوشًا أهل..
لن استجيب هذا اليوم لـ«بيتك» القلق هذا يا «متنبي»؛ بل سأذهب إليك في حالة فرحك الاستثاني، ألست القائل:
الصَّوْمُ والفِطْرُ والأعيادُ والعُصُر
منيرةٌ بكَ حتى الشمسُ والقمرُ
ألا ما أروع المحبة حين تحمل صاحبها إلى جعل ممدوحه عيدًا للعيد، وإن اختلفت مطالع الهلال فيهما بين شوال وذي الحجة، فالعيد هو العيد في كليهما.. فما أشرق الفرح هنا، في قولك:
هنيئًا لكَ العيدُ الذي أنتَ عيدُهُ
وعيدٌ لمن ضحَّى وسمّى وعيّدا
سأفرح وأضحك مع ابن الرومي أيضًا، هذا الفيلسوف الذي برع في رسم «الكاريكاتيرات» الشعرية، انظر إليه يقول في حق هلال العيد:
ولمَّا انْقضى شهـرُ الصيـامِ بفضلِهِ
تجلَّى هـلالُ العيـدِ من جانبِ الغربِ
كحاجـبِ شيخٍ شابَ من طُولِ عُمْرِه
يشيرُ لنا بالرمـز للأكْـلِ والشُّـرْبِ
سأرخي سمعي لصوت الشاعر المصرى محمد الأسمر وهو يجعل من يوم العيد لحظة للخيرات، بقوله:
هذا هو العيدُ فلتصفُ النفوسُ به
وبذلك الخير فيه خير ما صَنعا
أيامُهُ مَوْسمٌ للبرِّ تزرعُهُ
وعند ربّي يخبي المرءُ ما زَرعا
فتعهَّدُوا النّاسَ فيه: من أضرَّ بهِ
ريبُ الزّمانِ ومن كانوا لكم تبعَا
وبدِّدوا عن ذوي القربى شُجُونَهم
دعــا الإلهُ لهذا والرّسولُ معا
واسوا البرايا وكونوا في دياجرهم
بــدرًا رآه ظلامُ اللّيلِ فانقشعا
بهذا سأباشر العيد اليوم، وأنشر فرحًا في ساعاته، واستقبل الحياة باسمًا فكل عام وأنتم بخير، ومن عوّاده حفظ الله وطني وولاة أمره وشعبه الكريم.