إن الغياب التام والصمت المُستمر لـ«مجلس الأمن» تجاه الإبادة الجماعية والسلوكيات المُتطرفة التي تمارسها إسرائيل على قطاع غزة تثبت تحيزهُ للظُلم وابتعاده عن العدالة، وتُدلل على تبعيته لسياسات قوى الاستعمار، وتؤكد على عدم المُساواة بين الشعوب والدول والحضارات..
كُنا نشاهد ونسمع، عبر وسائل الإعلام، آثار الدمار والتدمير والتخريب الشامل الذي أصاب برلين، وباريس، وروما، ومُعظم إن لم يكن كل العواصم الأوروبية الرئيسية وغير الرئيسية، كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م). وكُنا نشاهد ونسمع، عبر وسائل الإعلام، آثار الإبادة الجماعية الشاملة والممارسات والسلوكيات غير الأخلاقية تجاه الإنسان والإنسانية الذي أصاب هيروشيما وناجازاكي نتيجة الضربات الذَّرية التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لتعلن بعدها نهاية الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1945م. وبالإضافة إلى هذه المشاهد المأساوية، شاهدنا كذلك مشاهد البؤس والقتل والتدمير والتخريب الشامل الذي أصاب معظم شعوب ومدن وقرى أوروبا وشمال إفريقيا وشرق آسيا ومنطقة المحيط الهادي كأثر من آثار تلك الحرب العظيمة التي عمَّت مآسيها ومساوئها حتى نهايتها عام 1945م. نعم، لقد شاهدنا تلك الأحداث التاريخية الصعبة ونتائجها المأساوية، إلا أنها لم تؤثر كثيراً بأحاسيس وقلوب ومشاعر من لم يعش ظروفها وأحداثها من أبناء الأجيال اللاحقة لتلك المرحلة التاريخية، مما جعل المشاهدة والاستماع أقرب ما تكون مشاهدة ترفيهية لقصة من قصص الخيال الإنساني. نعم، لقد شاهدنا تلك الأحداث التاريخية المُعقدة والمركبة وأثارها المؤلمة وغير الإنسانية حتى ظننَّا أنها لن تتكرر في التاريخ البشري نظراً لعظم الخسائر الإنسانية والمادية والمالية والحضارية التي تسببت بها تلك الحرب العظيمة التي عمَّت بخرابها معظم مناطق وأقاليم وقارات العالم. وهذه الظُنون الإيجابية الداعية للتفاؤل حول عدم إمكانية تكرار المآسي الإنسانية دعمتها الجهود الدولية الداعية لتأسيس كياناً دولياً هدفه تعزيز الأمن والسلم والاستقرار الدولي، وغايته تدارك الظروف المؤدية للصراعات والحروب بين الدول والأمم والحضارات، حتى إذا اكتملت الصورة واتفقت الأمم على الغاية المنشودة، تأسست "هيئة الأمم المتحدة" بأجهزتها الستة الهادفة لتحقيق الرؤية السَّامية التي اتفقت عليها الدول والأمم لتضمن من خلالها استتباب الأمن والسِلم والاستقرار الإقليمي والدولي. نعم، لقد كانت تلك أهداف سامية، وغايات جليلة، وخطوات نبيلة سعت إليها الشعوب والدول والأمم، إلا أن هذه النيات الحسنة والأمنيات الصادقة لدى معظم الدول والأمم المؤسسة لم تكن كافية لتتمكن من تحقيق ما تطلعت له الشعوب المسلوبة الحقوق، والدول المنهوبة الخيرات، والحضارات المستهدفة بالتشويه لصورتها وإرثها وثقافتها العريقة. نعم، إن الواقع الإنساني الذي نعيشه، والأحداث السياسية القائمة على أرض الواقع، والصراعات والحروب الدولية المُستنزِفة للدماء والأموال والإرث الحضاري بشكل غير مُنقطع، جعلت من تلك المشاهد المأساوية التي أصابت برلين وباريس وروما وأجزاء من لندن حاضراً مُشاهداً في قطاع غزة مُنذ الـ 7 من أكتوبر 2023م، وجعلت من تلك الصور والمشاهد غير الإنسانية التي عاشتها هيروشيما وناجازاكي حاضراً ماثلاً ومُشاهداً وحيّاً في قطاع غزة تسببت به آلة القتل والدمار والتخريب الإسرائيلية مُنذُ الـ7 من أكتوبر 2023م. وإذا كان ذلك التاريخ المأساوي الذي ساد بنهاية الحرب العالمية الثانية يمكن وصفه بالصعب والمُخيف وغير الإنساني، فإن تلك المآسي والصِعاب تضاعفت في قطاع غزة بسبب الحصار الشامل والمستمر، والتجويع المقصود، والتدمير المُمنهج للبنية التحتية، حتى أصبحت جميع القطاعات الخدمية من صحة وماء وكهرباء وغذاء وطرق معدومة تماماً مما ضاعف المعاناة وصعَّب المعيشة لأقصى درجاتها، حتى أن العالم أجمع يشاهد ذلك مباشرةً عبر مختلف وسائل الإعلام وبجميع اللغات. وأمام هذه الأحداث السياسية، والصراعات والحروب المستمرة، والإبادة الجماعية المتواصلة التي تمارسها إسرائيل تجاه قطاع غزة بشكل خاص، وفلسطين والفلسطينيين بشكل عام، يفرض علينا الواقع أن نتساءل عن دور "هيئة الأمم المتحدة" بشكل عام، وجهازها الرئيس "مجلس الأمن" بشكل خاص، من الحرب الشاملة التي يتعرض لها قطاع غزة مُنذ الـ 7 من أكتوبر 2023م؟
نعم، إن الشعوب والدول والأمم، من حقها أن تتساءل - أمام هذه المآسي الإنسانية، والممارسات الإرهابية، والسلوكيات المُتطرفة - عن الغياب التام لـ "هيئة الأمم المتحدة"، وعن الصمت المُستمر لـ "مجلس الأمن" تجاه الإبادة الجماعية والتدمير المُمنهج الذي تسببت به آلة التدمير والقتل الإسرائيلية تجاه قطاع غزة مُنذُ الـ 7 من أكتوبر 2023م. وهذه التساؤلات الأممية تجاه "هيئة الأمم المتحدة" و"مجلس الأمن" مبنية في أصلها على الأُسس التي تأسست عليها هذه الهيئة الأممية وأجهزتها الرئيسية في عام 1945م، وعملت عليها على امتداد العقود الماضية حتى يومنا هذا. نعم، إن من حق الشعوب المُحبة للسلام والمؤيدة للحقوق الإنسانية أن تتساءل عن الغياب التام للأمم المتحدة المعنية بالبناء والتقدم الحضاري بحسب ما نص عليه ميثاقها، المُعلن بموقعها الرسمي، حيث يؤكد على الآتي: "تهدف الأمم المُتحدة إلى تحقيق أربعة مقاصد، هي: 1) حفظ السلم والأمن الدوليين. 2) إنماء العلاقات الودية بين الأمم. 3) التعاون على حل المشاكل الدولية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان. 4) والعمل كجهة مرجعية لتنسيق أعمال الأمم.
"وفيما يتعلق بحفظ الأمن والسلم، فقد نص الميثاق على الآتي: أنه "عندما يؤدي النزاع إلى أعمال عدائية، يكون الشاغل الأساسي للمجلس هو وضع حد لتلك الأعمال بأسرع ما يمكن، وفي تلك الحالة للمجلس أن يقوم بما يلي: 1) إصدار توجيهات بوقف إطلاق النار مما يساعد على منع تصعيد النزاع. 2) إيفاد مراقبين عسكريين أو قوات لحفظ السلام للمساعدة في تخفيف حدة التوترات وللفصل بين القوات المتعادية وإحلال جو من الهدوء يمكن فيه السعي إلى تسوية سلمية، وعلاوة على ذلك، للمجلس أن يقرر اتخاذ تدابير للإنفاذ، تشمل ما يلي: 1) الجزاءات الاقتصادية، وحظر توريد الأسلحة، والعقوبات والقيود المالية، وحظر السفر؛ 2) قطع العلاقات الدبلوماسية؛ 3) الحصار؛ 4) أو حتى العمل العسكري الجماعي. ويتمثل أحد الشواغل الأساسية في تركيز الإجراءات على المسؤولين عن السياسات أو الممارسات التي يدينها المجتمع الدولي، مع التقليل إلى أدنى حد ممكن من أثر التدابير المتخذة على غيرهم من السكان وعلى الاقتصاد." نعم، إن ما تضمنه ميثاق "هيئة الأمم المتحدة" يثبت أنها غائبة تماماً عن مسؤولياتها السياسية والإنسانية والأخلاقية، ويؤكد عدم رغبتها ورغبة أعضائها الدائمين بممارسة صلاحياتها ومهامها وواجباتها التي كفلها لها القانون الدولي والمواثيق والمعاهدات الدولية. وأمام هذه الحقائق الثابتة بما هو قائم بصمتها تجاه الإبادة الجماعية الممارسة على قطاع غزة مُنذُ الـ 7 من أكتوبر 2023م، فإنها كهيئة أممية تواصل فقد مصداقيتها ونزاهتها وأمانتها أمام الشعوب والمُجتمعات المُحبة للسلام والأمن والاستقرار والرفاه.
وفي الختام من الأهمية القول إن الغياب التام والصمت المُستمر لـ "مجلس الأمن" تجاه الإبادة الجماعية والسلوكيات المُتطرفة التي تمارسها إسرائيل على قطاع غزة تثبت تحيزهُ للظُلم وابتعاده عن العدالة، وتُدلل على تبعيته لسياسات قوى الاستعمار، وتؤكد على عدم المُساواة بين الشعوب والدول والحضارات. نعم، لقد أثبتت أحداث غزة بأن "مجلس الأمن" ليس إلا أداة من أدوات القوى القطبية في المجتمع الدولي حيث يُستخدم لتبرير السياسات التوسعية والعدوانية الهادفة لتعزيز مكانتها الدولية والأُممية، أو وسيلة لِفرض العُقوبات السياسية والاقتصادية والعسكرية على الشعوب الضعيفة، أو مِنبراً لِتسويق الرُؤى والافكار والتوجهات والأيديولوجيات للأمم والشعوب المُستهدفة. نعم، إنها الحقيقة التي أكدت عليها أحداث غزة، والتي يبدو أنها لن تتغير على المدى المنظُور.