: آخر تحديث

جنوب افريقيا وانقسام «الجنوب العالمي» حول إسرائيل

7
6
7

مواكبةً للقضية التي رفعتها جنوب افريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، بتهمة توفّر الأدلة القصدية والعينية على جرائم الإبادة في الحرب المتواصلة على قطاع غزة، وضع كثيرون من العرب صوراً للرئيس الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا في بادرة تقدير واستذكار، تحركهم رغبة إكساب الحدث دلالة رمزية أوضح.

وهذا مفهوم نظراً إلى تحوّل مانديلا إلى أيقونة كفاحية تشحذ الهمم، وتحيل إلى تقويض نظام التفرقة العنصرية المبني على الاستعمار الاستيطاني، ونظراً إلى كون القضية الفلسطينية في مواجهة صنف آخر من الاستعمار الاستيطاني، وشكل آخر من الأبارتيد.

وقد حصل أن البلد الذي تحرر من الأبارتيد مع مانديلا هو الذي ينبري اليوم للتدليل على جرائم المحتل الإسرائيلي، والتكشيف عن مظلومية الشعب الفلسطيني أمام المحافل القضائية الدولية، هذا في وقت باتت فيه بعض الأنظمة العربية على يمين بنيامين نتنياهو.

الناس في كل هذا محقّة وهي تستعيد ذكرى ومحيا نيلسون مانديلا. زد على أن سيرته، كحبيس أسطوري، وكزعيم لأمة بخطاب إنساني كوني، وكرئيس لم يختر البقاء على رأس السلطة حتى آخر يوم من عمره، تختلف تماماً عن سيرة نموذج آخر، روبرت موغابي، قاد قبله عملية إسقاط نظام الأقلية البيضاء في روديسيا المجاورة، التي أصبح اسمها إثر ذلك زيمبابوي، لكنه آثر الاحتفاظ بالسلطة كيفما كان لـ 37 عاما متواصلة إلى أن خلعه عسكره وهو في عمر الثالثة والتسعين!

مانديلا اكتفى بخمسة أعوام هي مدة ولايته الدستورية، وأمضى بعدها أربعة عشر عاماً بعيداً عن السجن والسلطة معاً. بالتالي ليس فقط على النقيض من النموذج التسلّطي لتقويض نظام الفصل العنصري في روديسيا – زيمبابوي، بل هو على النقيض من النماذج «المأثورة» للديكتاتور العربي. ولا يلغي هذا في المقابل إبقاء مانديلا على صداقته مع كل من روبرت موغابي والعقيد معمر القذافي، بصرف النظر عن أنه أوجد لنفسه في الحكم نموذجاً لا يشبه أيّاً منهما.

لا يلغي استذكار مانديلا بمناسبة الخطوة الجنوب أفريقية المبدئية والشجاعة اليوم، أن العلاقات بين جنوب افريقيا وإسرائيل كانت إيجابية في عهد مانديلا نفسه، فهو آثر عدم الانقلاب على ماضي «التحالف» بين نظام الأقلية البيضاء في بريتوريا وبين إسرائيل، هذا التحالف الذي كانت له مستويات اقتصادية وأمنية وعسكرية، بل ونووية، والذي خفف من حدة العزل الدولي لنظام الأقلية البيضاء العنصري خاصة حين أخذت الدول الغربية تنبذه الواحدة بعد الأخرى بعد أن كانت تحتاجه إلى جانبها أيام الحرب الباردة.

لقد تزامنت التسوية التي سمحت بإطلاق مانديلا من السجن وصولا إلى قيادته جنوب افريقيا، مع الإقلاع، المتخبط من الأساس، بل المعتلة أساساته، لعملية التسوية في الشرق الأوسط، وبخاصة على الصعيد الإسرائيلي الفلسطيني، وغلبت على مانديلا النظرة المتعطشة لرؤية منطقة الشرق الأوسط تقتدي بالنموذج الجنوب أفريقي للتفكيك المرن لنظام الهيمنة والتفرقة العنصريين. لم ينس مانديلا لوم إسرائيل على ماضي مساندتها لنظام الأبارتيد في جنوب افريقيا، لكنه قابل «لحظة أوسلو» في الشرق الأوسط باعترافه، بما أسماه «شرعية كل من القومية الفلسطينية والصهيونية من حيث هي القومية اليهودية» ذاهباً إلى أن تسويغ «شرعيتين» بهذا الشكل يوجد الأرضية لحل الدولتين، هذا في وقت بات فيه مانديلا على رأس دولة جنوب أفريقية واحدة متعددة قومياً، بأكثرية سوداء غالبيتها من قوم البانتو، وتستوعب الأقلية البيضاء، وامتيازاتها الاقتصادية الفعلية، داخلها، أضف للمصنفين «ملونين» و«هنود» و«آسيويين» في إطار الهرمية العرقية لنظام الأبارتيد المفكك، إنما الذي لم يندثر بشكل تام.

بالتالي، شهدت العلاقات مع إسرائيل تطوراً لافتاً أيام حكم مانديلا، الذي كان تعليقه يوم نال نوبل للسلام عام 1993 أنه كان الأولى اعطاءها لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين (وهي ذهبت لكل من رابين وشمعون بيريز وياسر عرفات في العام التالي). لم يقم مانديلا بزيارة رسمية إلى إسرائيل، لكنه فعل ذلك بعد أشهر قليلاً على مغادرته الرئاسة عام 1999، ورغم أن عملية السلام مع الفلسطينيين لم تلبث أن انهارت بعد ذلك بعام الا أن علاقة خلف مانديلا تابو مبيكي بإسرائيل لم تتدهور رغم الخلاف الذي بدأ يظهر منذ «المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب» في ديربان جنوب افريقيا صيف 2001. ظهر حينها أن استهتار إسرائيل بحق تقرير المصير للفلسطينيين سيدفع «الجنوب العالمي» إلى رؤيتها مجدداً بمنظاري الاستعمار الاستيطاني والأبارتيد.

تزامن ذلك ليس فقط مع حرب إسرائيل على الانتفاضة الثانية، بل أيضا مع انتشار تنظير جديد فيها أخذ يرى أن «اللاسامية الأوروبية» باتت من الماضي، وانزاحت اللاسامية في هذا القرن نحو الجنوب العالمي، وليس فقط العالم الإسلامي. في المقابل، لاساميو أوروبا بدلوا كراهيتهم ضد اليهود بكراهية ضد المسلمين، في الوقت نفسه الذي بات فيه المسلمون أكثر تشرباً لخطابية تدمج بين معاداة الغرب وبين معاداة اليهود. «لاسامية البيض» تراجعت، فتقدمت «لاسامية الساميين الآخرين والحاميين». بالتالي، صار من الممكن سماع بنيامين نتنياهو وهو يشرح أن المحرقة النازية كانت من أمهات أفكار الحاج أمين الحسيني وليس أدولف هتلر! كما صار من الممكن تبييض صورة أحد أبرز المجرمين بحق اليهود في أوكرانيا، ستيبان بانديرا، بحجة أن القوميين الأوكران هم اليوم، في صف «الحضارة الغربية» ضد أعدائها.

أما تكملة هذا التنظير فهو أنه على إسرائيل أن لا تكتفي بالتصرف كحلقة أمامية للحضارة الغربية، أو للإمبرياليزم الغربي، وأن لا تتعامل مع الجنوب العالمي ككتلة واحدة، بل أن تحسب نفسها «بنت هذا الجنوب أيضاً» فيكون هناك الجنوب العالمي المناهض لها، والجنوب العالمي المؤيد لها.

واليوم، إذا كانت جنوب افريقيا قد تدهورت علاقاتها بإسرائيل في عهد جاكوب زوما، وبشكل أوضح بعد وصول سيريل رامافوزا إلى سدة الرئاسة قبل خمس سنوات، فإن حركة المعارضة مثلاً لحكم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي يهيمن على البلاد منذ أيام مانديلا تتميز بوقوفها إلى جانب إسرائيل ورفض نعت سياساتها في المناطق المحتلة بالأبارتيد، فضلاً عن تضمين الحرب الحالية أي سمة «إبادية».

قبل عام نجحت جنوب افريقيا في طرد إسرائيل من قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، وهي اليوم تتصدى لها في لاهاي، وهي في الحالتين تساهم في إعادة تعبئة «الجنوب العالمي – العالم الثالث» لنصرة الفلسطينيين، في الوقت الذي تسعى إسرائيل بكل ما في وسعها لشق الجنوب العالمي إلى اثنين، أحدهما محابٍ لها، أو متفهم لحربها، أو متواطئ، أو مشارك معها، والثاني ليس بمستطاعه، ما دام يستمد شرعيته من مفهوم «التحرر الوطني» الا إدانة احتلالها، ونظام تفرقتها، والآن المنحى الإبادي لحربها المركزة على السكان، والمشتهية لترحيلهم عن قطاع هو في الأساس معسكر لاجئين كبير من ضحايا النكبة.

فمن جهة، تجد نارندره مودي وحزبه القومي الديني في الهند، وعددا من الأنظمة العربية ومن أنظمة افريقيا جنوب الصحراء كحال الكاميرون وتشاد وسيراليون وزامبيا. كل فئة تجد في إسرائيل ضالتها لسبب. هنا مشكلة مزمنة ومؤدلجة مع المسلمين ككل، هناك مشكلة مع العرب بالتحديد. هنا وهناك رغبة في شراء الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية.

ومن جهة تجد الموقف الجنوب الأفريقي الحالي ومن يؤيد هذا التوجه، بخاصة في أمريكا اللاتينية، وهو موقف يتناول بالأساس إسرائيل من زاوية أنها بتأبيدها احتلالها للأراضي الفلسطينية تزاول استعماراً استيطانياً من النوع الذي لا يمكن للذاكرة الأفريقية التصالح معه. هذا من دون أن يغيب عن البال أن التبادل التجاري بين جنوب افريقيا وإسرائيل لم يتضرر بعد منهجياً من التردي الحاصل في العلاقة بينهما، وما زال يتصدر التبادل بين إسرائيل والقارة الأفريقية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد