: آخر تحديث

أمواج الطوفان العاتية

11
10
9

الاعتقاد بأن الحرب في غزة محدودةً بساحة المعركة الضيق لملحمة طوفان الأقصى، إنما يختزل الأزمة بما لا يعكس حقيقة الاختراق الاستراتيجي، الذي حدث في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. كذلك، من يعتقد: أن آثار حرب غزة، عندما تضع أوزارها، تتوقف على ما تسفر عنه من مواقف وتبعات على طرفيها المباشرين، إنما يغفل نتائج أكثر خطورة وأثراً، على أطراف دولية بعيدة، غير تلك التي قد تتطور على تخوم ساحة الوغى الرئيسية في غزة.

الزلزال الذي أحدثه طوفان الأقصى، لم يكن منذ اللحظة الأولى لثورانه مقصوراً على مركزه، بل الخطورة كانت في توابعه، التي سمعت في أركان الكرة الأرضية، بالذات الولايات المتحدة الأمريكية. في ساعات، حال ما اُوقظ الرئيس الأمريكي من نومه، طار وزير خارجيته إلى إسرائيل، ليعبّر عن مكنون الثقافة الغربية الحقيقي، بعيداً عن زيف مظهرها الليبرالي، عندما قال جملته الشهيره عند لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي: جئتكم اليوم ليس بوصفي وزير خارجية الولايات المتحدة، بل كيهودي، لإشارككم المصاب الجلل! في حقيقة الأمر لم تكن تلك زلة لسان. هناك عبارة شهيرة، كان يرددها الرئيس الأمريكي، عندما كان شيخاً في الكونجرس، لثلاثة عقود، وأكد عليها بعد ثوران طوفان الأقصى، وهي: لو لم تكن إسرائيل موجودة، لعملنا على إيجادها.

إذن: منذ اللحظات الأولى تعاملت واشنطن، ووراءها ما يُسمى بالعالم الحر في الغرب مع الأزمة، وكأنها قضيتهم الأولى. الأخطر: أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، أبدى استعداداً حالاً وقوياً، بدفع تكلفة مواجهة ما حدث في السابع من أكتوبر، مهما بلغت فداحة الثمن، وصولاً للتضحية بالقيم الليبرالية، التي تشكلُ الشرعية السياسية والأخلاقية والقانونية، لأنظمة الحكم الغربية، بما فيها الممارسةُ الديمقراطية (التاج السلوكي) لثقافة الغرب المعاصرة.

طوفانُ الأقصى، كشف زيف الثقافة الغربية، الممتدُ لأكثر من خمسٍ وعشرين قرناً، منذ تجربة الحضارة اليونانية، مروراً بالثقافة المسيحية الهجينة، إلى تجربة القيم العلمانية (الليبرالية)، مكلّلاً بالممارسة الديمقراطية، ببعدها السلوكي. هذا التراث الغربي الممتدُ، يؤكدُ على عنصرية مقيتة، تزعم: أن الحرية هي خاصية - إن صح التعبير - «جينية» لشعوب الشمال الغربية، ليست أبداً فطرة إنسانية أممية.

لم نتجاوز الحقيقة، لو زعمنا: أن طوفان الأقصى، لأول مرة، يهز أركان القيم التي تقوم عليها الممارسة الديمقراطية في الغرب، بما يهددُ المكانة السياسية للنخب الحاكمة في تلك المجتمعات ويختبرُ صلابة مؤسسات الحكم فيها... بل ومكانة مؤسسات المجتمع المدني بها، أيضاً. لأول مرة في التاريخ، يحصل بهذا العنف والغضب والقوة انشقاقٌ بين النخب السياسية والمجتمعية في مجتمعات الغرب، وقاعدته الشعبية. دائماً وأبداً دفة الأمور ظلت بيد النخب السياسية الحاكمة، تتبعها قاعدتها الشعبية، دون مدخلات حقيقية للأخيرة، غير تلك التي تتحكم في اختيار رموز الحكم، وفقاً لمتغيرات سياسية آنية ومتقلبة، وليس وفقاً لقضايا تنالُ من قيم وشرعية الممارسة الديمقراطية، نفسها.

اليوم، وبسبب طوفان الأقصى، لم تعد فقط القضايا التي تهم الشارع في مجتمعات الغرب الديمقراطي، ذات علاقة بقضايا المواطن الحياتية اليومية، من مكافحة الغلاء والبطالة ومستويات الأجور.. وتحسين مستويات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية.. وقضايا الضرائب.. وحرية التجارة وحركة رأس المال، وغيرها من القضايا (المادية) المماثلة، التي تشكّل معظم مدخلات الأنظمة السياسية في تلك المجتمعات. طوفانُ الأقصى أخرج عفريت القضايا ذات الصلة الحقيقية بجوهر القيم الليبرالية من القمم.

المظاهراتُ عمّت شوارع مدن مجتمعات الغرب الديمقراطي، مُطالبةً بالحرية، ليس المزيد منها، هذه المرة، بل لشعوبٍ حالت ممارسات حكوماتهم الفاشية، دون تمتعها بها، بسبب العدوان والظلم والاحتلال. لأول مرةٍ في تاريخ القضية الفلسطينية، تخرجُ من نطاق الصراع العربي الإسرائيلي الضيق.. أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأشدُ خناقاً، ليصبح شعار الحرية لفلسطين والفلسطينيين، تهتف به الجماهيرُ في مجتمعات الغرب، معلنةٌ صحوةً مدويةً نصرةً للقيم الليبرالية الحقيقية، لتعود لفطرتها الإنسانية السوية.

قيمياً وحركياً: بعد أن تضع الحربُ في غزّة أوزارها، لن تعود مجتمعات ديمقراطيات الغرب ولا حكوماتها، إلى سالف ما كان عليه حالها، قبل طوفان الأقصى. الحريةُ، ستنطلق من عقالها، لتصبح قيمة إنسانية أممية، يستحق البشرُ جميعاً التمتعُ بها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد