في اللحظة التي ما زالت فيها غزة تحاول التقاط أنفاسها بين هدنة هشة وركام لم يُرفع بعد، يعود ملف إعادة الإعمار إلى الطاولة الدولية بوصفه عنوان المرحلة المقبلة. إعلان واشنطن نيتها عقد مؤتمر دولي الشهر المقبل، مع بروز اسم القاهرة كمرشح محتمل للاستضافة، لا يمكن قراءته كخطوة إنسانية مجردة أو صحوة ضمير متأخرة، فالإعمار في الحالة الفلسطينية ظل دائماً مرآة للصراع لا نتيجته، ومحكاً لصدق الإرادة الدولية التي اعتادت أن تبيع لنا “الوهم” في مؤتمرات المانحين، بينما تترك آلة الدمار طليقة اليد.
إن التحرك الأميركي، الذي يُسوّق كمرحلة ثانية للانتقال من إدارة القتال إلى إدارة ما بعده، يظل محفوفاً بالألغام، فالحرب لم تُغلق سياسياً، وما نراه ليس إلا تهدئة مؤقتة قابلة للانفجار عند أول احتكاك. وهنا يبرز السؤال الوجودي: هل نحن بصدد بناء وطن، أم بصدد رصف شوارع في “سجن كبير” ينتظر جولة التدمير القادمة؟ إن الحديث عن الإعمار قبل وقف دائم وشامل لإطلاق النار هو وضع للعربة أمام الحصان، وهو مقامرة بمقدرات الشعوب.
أما القاهرة، التي تدرك واشنطن جيداً أنها الركيزة التي لا يمكن تجاوزها، فتجد نفسها أمام معادلة شديدة الحساسية. فمن جهة، تسعى مصر إلى تثبيت نفوذها التاريخي كصمام أمان للقضية، ومن جهة أخرى، تدرك أن الانخراط في “مجلس السلام” أو ترتيبات الإعمار الدولية يعني تحمّل كلفة سياسية وأمنية هائلة. فالدور المصري اليوم لم يعد مجرد وسيط، بل أصبح في مواجهة مسؤوليات طويلة الأمد قد تتجاوز حدود الدور التقليدي، ما يفرض على الأشقاء في مصر طلب ضمانات دولية غير قابلة للتأويل، كي لا يتحول الإعمار إلى عبء يُثقل كاهل الدولة المصرية بدلاً من أن يكون رافعة للاستقرار.
وفي قراءة موضوعية للمشهد الداخلي، لا يمكن القفز فوق التساؤلات المشروعة الموجهة لحركة حماس. إن النقد هنا ليس نيلاً من الصمود، بل هو نقد استراتيجي بامتياز. فإدارة غزة بمنطق الصراع المفتوح، دون أفق سياسي واضح أو شراكة وطنية حقيقية، هو الذي أوصل القطاع إلى هذا المستوى المرعب من الدمار. واستمرار الانفراد بالقرار وترك حياة مليوني إنسان رهينة لاحتمالات التصعيد دون شبكة أمان وطنية يضعف فرص الإعمار ويجعل المجتمع الدولي يتردد في البناء على رمال متحركة. المطلوب اليوم مراجعة شجاعة تتيح الانتقال من إدارة القتال إلى حماية المجتمع، وهذا لن يتأتى إلا بالانضواء تحت المظلة الوطنية الشاملة.
من هنا، يصبح إشراك السلطة الفلسطينية في عملية الإعمار ضرورة وجودية لا تقبل القسمة على اثنين، فالسلطة هي الممثل الرسمي والوحيد الذي يمنح هذه العملية شرعيتها القانونية والسيادية. وتغييب السلطة أو تجاوزها هو وصفة جاهزة لتعميق الانقسام وتحويل غزة إلى كانتون منفصل يُدار بعقلية الوصاية الدولية. إن الإعمار يجب أن يكون الجسر الذي يربط غزة بالقدس والضفة، لا الثغرة التي تُفرغ المشروع الوطني من مضمونه التحرري.
إن مؤتمر إعادة الإعمار سيكون اختباراً حقيقياً، فإما أن يكون بداية لمسار سياسي يحمي الحجر والبشر، وإما أن يظل مجرد محطة دبلوماسية لالتقاط الصور. غزة لا تحتاج إلى مجلس سلام يمنح العقود للشركات العابرة للقارات، بل تحتاج إلى إطار سياسي يضمن ألا يُهدم ما يُبنى مجدداً. فبدون وقف إطلاق نار دائم وبدون سيادة فلسطينية كاملة، سيبقى الإعمار وعداً مؤجلاً، وستظل المأساة قابلة للتكرار، مهما تعددت عناوين المؤتمرات ومهما ضُخت من مليارات.


