ليس بخاف على أحد ما عايشته منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية منه تحديدًا، في العقد الأخير من مؤامرات صمدت في وجهها وتجاوزت آثارها دول كمملكة البحرين والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، واستدركت أمرها معها دول أخرى كمصر وتونس، وتهاوت معها دول أخرى كسوريا واليمن وليبيا، والخشية كل الخشية أن يمتد الأمر إلى السودان نظرا لما يعايشه هذا البلد أيامنا هذه من فتنة عسكرية مسلحة تنذر بأن تأتي على الأخضر واليابس في بلد لم يتعافَ بعد من جراح أثخن بها جسده انقلاب عمر البشير عام 1998 بتدبير من تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي.
وحتى في حال خالفنا قناعاتنا، وسايرنا غيرنا في إصدارهم الأحكام على مجريات الأحداث الدامية في السودان، ووصفناها كما يصفونها بأنها استنساخ لما جرى في بعض البلدان العربية إبان ما سمي زورا وبهتانا «ربيعًا عربيًا»، فإنه ليس من الصواب أن نبرر انحياز مراقبي المشهد من بعيد إلى هذا الطرف أو ذاك من المتحاربين، خاصة أننا قد خبرنا أن الدوائر الغربية وتابعها اليسار العربي، وبالرجوع إلى أدوارها المتسافلة وضاعة وخسّة في العام 2011، لا يُرتجى منها أبدًا صلاح للدول العربية ومجتمعاتها؛ لأنها ببساطة لا تسعى - ما أتاحت لها الفرص ذلك - إلا إلى الهدم والإيغال في إضعاف الدولة وقواها المدنية المعول عليها في أن تقف حجرة عثرة أمام نزوات الحزبيين وميليشياتهم المنتشرة في أكثر من بلد عربي تقتنص اللحظة للانقضاض على السلطة.
يبدو أن الصورة في السودان، والمعارك الدامية بين الجيش السوداني وقوات التدخل السريع تنهي أسبوعها الثاني، ماتزال قاتمة، ولعل مجريات الأحداث المثيرة وفجئيتها بالنسبة إلى الشعب السوداني تتيح لنا القول إن ما يجري ليس إلا صراعا على السلطة يثيره العسكر بينهم وبين بعض؛ لتستمر دورة الاستغلال والفساد والنهب لمقدرات الشعب السوداني. ولعل الحقيقة التي غابت عن القوى المتصارعة في السودان على كرسي الحكم هي أن السودانيين لا ينتظرون منهم شيئًا سوى أن ينقشعوا من سماء السودان ليعود إليها صفاؤها، وهو أمل لا يمكن أن يتم من دون عودة العسكر إلى ثكناته بعد نقل السلطة إلى الأحزاب السياسية المدنية؛ فخلاص السودان يكمن في الخروج من دوامة الانقلابات العسكرية وهيمنة الأحزاب بشتى مسمياتها على أجهزة الدولة. وعلى مدى التاريخ ليس ثمة شواهد دامغة من أي بلد من البلدان على أن الصراع على السلطة قد أثمر نتائج إيجابية في المجتمعات التي تناوبت على حكمها الجماعات الحزبية أو العسكرية مهما رفعت من شعارات الزيف المنادية بـ«الديمقراطية» والعدالة و«حقوق الإنسان». ولا يغرنك تصنيف قوى العسكر سطوها على السلطة ووصفها له بـ«الثورة» كما حدث وسيظل يحدث في كثير من البلدان العربية الجمهورية ما لم تنشط القوى المدنية وتبادر إلى الأخذ بزمام الأمور. وبما لا يدع مجالاً للشك، فقد بات واضحا أشد الوضوح ومن أمثلة كثيرة في البلدان العربية أن شيوع الصراع على السلطة يؤسس لدورة من العنف والعنف المضاد يذهب ضحيتها المواطنون المسالمون.
السودان، وأسوة بكل البلدان العربية التي عبرت المنعطفات التاريخية الحادة وشهدت عِراكات واحترابات على السلطة، يحتاج للخلاص من محنته المتجددة إلى دعم إقليمي وعربي في الأساس وليس إلى تدخلات أيا كانت هذه التدخلات وخصوصا تلك التي تأتي من الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وهي القوة التي تقتات من الأزمات وتغذيها خدمة لمصالحها الضيقة. وعلى المتحاربين فيها أن ينأوا عن مبادرات «السلام» الأمريكية؛ لأن فخاخ المبادرات الأمريكية كما يعلمنا التاريخ القريب والبعيد كثيرة، وقد أثبتت ذلك تجارب بعض المجتمعات معها، فما إن تتدخل الولايات المتحدة في أي أزمة من الأزمات حتى تزداد الأوضاع سوءا، وها هي القضية الفلسطينية وعراق ما بعد الغزو أمثلة شاخصة ودليل قاطع لكل الواهمين الحالمين بسلام تبنيه القوة الأمريكية.
السودان اليوم بحاجة إلى الاعتماد على قواه الذاتية وعلى دعم حكومات الدول الإقليمية والعربية المستقرة ومن دون التدخل في رسم المستقبل الذي ينبغي أن يكون عمل القوى السودانية المدنية وليس غيرها. فخراب سوريا والعراق واليمن وليبيا ما كان إلا نتيجة لهذه التدخلات وعلى رأسها التدخل الأمريكي.
ليس من المجدي اليوم أن نعود إلى عملية فرز قوى الجيش واستعراض ماضي منتسبيها والنبش فيه. نعم لقد كانت قوات الدعم السريع ميليشيا، لكنها أصبحت اليوم جزءا منه فقد استخدمها في محاربة خصومه في الجنوب، واستنجد بها لقمع الحركات الاحتجاجية المطالبة بالديمقراطية، ولهذا فعلى هذا الجيش أن يتحد من أجل إنهاء الوضع السياسي المتأزم، وأن يسارع في تسليم السلطة إلى القوى المدنية مثلما فعل ذلك من قبل عبدالرحمن سوار الذهب - ومن الصعب أن يجود الزمان بمثله -، وأن ينهي مسلسل المماطلة في التخلي عن حكم السودان؛ لأن مصير وجود الدولة السودانية قد أصبح في حكم المجهول نتيجة عبث صنعته نزوات الاستبداد بالحكم. وإذا كان هناك من حل ناجز وعاجل لكل هذه المشكلات فإنه ماثل بالضرورة في إزاحة كافة قيادات الجيش وقوات التدخل السريع وتشكيل قيادة جديدة لمرحلة جديدة.
المستقبل المشرق رهن بتطلعات الشعب السوداني وقواه الوطنية المدنية التي أنهكها وأضناها الانتظار لبناء بلد مستقر، لهذا فإن استعجال الجيش بكافة فرقه ومكوناته بتسليم السلطة إلى هذه القوى المدنية هو الذي سيسهم وبشكل بات في إخراج البلاد من شبح الحرب الأهلية الذي يلوح في الأفق ويوقف سفك دماء أبناء الوطن الواحد.

