لو لم تكن الدنيا تدور، لما تباينت الأحوالُ، ولما تغيّرت الحظوظُ. وتغيّرُ الحظوظِ يمكن أن يكون مثل أخطبوط، يمد أذرعه المتعددة في اتجاهات كثيرة، ومنها السياسة. وهذا يعني أن حظوظ من يقبعون في الهوامش منتظرين قد تتغيّر، ويجدون أنفسهم في قلب رحى العملية السياسية، وبيدهم مقاليد الأمور. نظرة واحدة إلى ما حدث ويحدث لأحزاب اليمين المتطرف أو المتشدد تكفي. آخر الأخبار جاءت من هولندا، تؤكد سقوط قلعة ليبرالية أخرى، بفوز حزب «الحرّية»، وهو حزب يميني متطرف، بالانتخابات العامة. وكان، إلى عهد قريب، هامشياً ومنبوذاً سياسياً واجتماعياً. ومن الممكن أن يصبح زعيمه خيرت فيلدرز رئيساً للحكومة.
قبل هولندا، تابعنا باهتمام وقلق سقوط إيطاليا، بصعود حزب «إخوة إيطاليا» إلى الحكم بقيادة سيدة اسمها جورجيا ميلوني. وهو حزب لا يخفي جذوره الفاشية. ورأينا أحزابا مماثلة في فرنسا والسويد والنمسا والمجر وفنلندا واليونان، تفكُّ جدران الهامش وتقتحم، عبر صناديق الانتخابات، الساحة السياسية الرئيسة. وهناك، بالطبع، نكسات مثل ما حدث مؤخراً في إسبانيا حيث أفلحت ميكافيللية الحزب الاشتراكي العمالي في الوقوف حائلا أمام اليمين للوصول إلى الحكم، ومثل ما حل بالشعبويين المتشددين في بولندا.
كل تلك الأحزاب اليمينية المتشددة، التي كانت مهمّشة سياسياً، تتبادل فيما بينها مكونات طبخة سياسية واحدة: ركوب موجة الهجرة، وموقف عدائي من الإسلام والمسلمين، وموقف لا يقل عنه عداوة من الاتحاد الأوروبي.
تلك الوصفة يمكن أن تضاف إليها مكونات أخرى تتماشى والأحوال السائدة. وعلى سبيل المثال، في مرحلة ما بعد انتشار الوباء كوفيد، أضيف إليها مكون موقف معاد من التطعيم، وتعاطف مع الناس ضد ارتفاع تكاليف المعيشة، وموقف رافض للتغيرات المناخية... إلخ.
هولندا، مثل دول أوروبية كثيرة، تتبنى نظاماً انتخابياً يسمى التمثيل التناسبي، وهو بطبيعته، نظام لا يضمن حصول حزب على الأغلبية البرلمانية. لذلك، فإن الدول التي تتبنى نفس النظام، تكون حكوماتها ائتلافية الطابع، متكونة من عدة أحزاب، وفي العادة تحت قيادة الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من المقاعد. في الانتخابات النيابية الأخيرة في هولندا، شارك 26 حزباً في الانتخابات، من مختلف ألوان الطيف السياسي، 18 حزباً منها من الممكن أن تكون ضمن تشكيلة الحكومة القادمة، استناداً إلى معلقين.
حزب «الحرية» اليميني بقيادة فيلدرز فاز بعدد 37 من مجموع 150 مقعداً. وهذا يعني أنه في حاجة إلى عدد 39 مقعداً آخر ليضمن الحصول على عدد 76 مقعداً، تؤهله لتولي الحكم، ورئاسة حكومة ائتلافية. زعيم الحزب فيلدرز صدر ضده حكم قضائي في السابق، بسبب شتمه لمهاجر مغربي ووصفه بالحثالة. وفي السنوات السابقة، كان يطالب بوقف بناء المساجد، ومنع ارتداء الحجاب في المؤسسات والمصالح الحكومية. وتعهد بإجراء استفتاء شعبي حول بقاء أو خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي، وطالب بإعادة المفاوضات مع بروكسل بخصوص اتفاقيات كثيرة ذات صلة بحقوق الإنسان والمهاجرين، بهدف خروج هولندا منها. والتقارير الإعلامية قالت إنه شخصياً فوجئ بالنتيجة الانتخابية، وفي ذات الوقت، تسببت النتيجة في إحداث صدمة سياسية شديدة في عواصم أوروبية كثيرة، باريس على سبيل المثال لا الحصر. لكنّه الآن يقف على رأس القائمة الانتخابية، وفي انتظار أن يتولى قيادة هولندا. هذه الأمنية، والتي هي في متناول أي زعيم حزبي آخر يفوز بالانتخابات، تقف فعلياً دونها عوائق. أهمها وأبرزها أن لا أحد من زعماء الأحزاب الأخرى على استعداد للمشاركة في أي حكومة يترأسها فيلدرز. وفيلدرز يعرف ذلك، وعليه تدارك المشكلة وإيجاد حلول لها. أبرز الحلول التي ظهر بها مؤخراً أنه سيحترم نصوص الدستور الهولندي، خاصة المتمثلة في حرية العقيدة وحرية العبادة، وحق التجمع وحرية الرأي. المعلقون الإعلاميون يرون أن حلم فيلدرز في قيادة حكومة ائتلافية لا يختلف كثيراً عن حلم إبليس بدخول الجنة. وأن أقرب الاحتمالات هو قبوله بتقديم دعمه البرلماني لأي حكومة ائتلافية بقيادة زعيم آخر، مقابل التزامها بقبول تنفيذ سياسات حزبه. وهم في ذلك يتناسون حقيقة أن حرمانه من رئاسة الحكومة يتعارض والديمقراطية، ورغبات الناخبين.
لكن تكهنات المعلقين تظل مجرد تكهنات، تخطئ كثيراً وتصيب قليلاً. وفي رأيي أن الدنيا التي تدور، وغيرت من حظوظ السيد فيلدرز وحزبه، ربما تواصل لعبتها، ونستيقظ بعد أسابيع أو أشهر قليلة، ونكتشف أن فيلدرز أصبح رئيساً لحكومة هولندا.
وما يهم حقيقة هو أن حظوظ أحزاب اليسار واليمين الليبرالي الأوروبي تتراجع انتخابياً على المجمل. ومن الواضح أن اليمين المتشدد يتقدم بخطى واسعة لملء الفراغ السياسي المفتوح، باستغلال مخاوف المواطنين من قضايا كثيرة تقلقهم وتجعلهم في خشية مما ينالهم من سوء مستقبلاً. ومن الواضح أن المسألة تتعدى أوروبا. في الأرجنتين تمكن مرشح رئاسي انتخابي -ليبرالي يميني متشدد- من دون خبرة أو تجربة سياسية، من اكتساح الانتخابات الرئاسية والفوز بقيادة الأرجنتين لأربع سنوات.