في الوقت الذي تدق طبول الحرب في النيجر، تتأكد نذر الانفلات التام الذي يمكن أن يصيب البلد المستهدف وجاراته وتتسع نقاط الاستفهام في دول المنطقة بخصوص ما سيفرزه الصراع من حالة فوضى عارمة ستستفيد منها شبكات الإرهاب وتجارة وتهريب السلاح والبشر، وسيجد البعض الفرصة ملائمة لتصفية الكثير من الحسابات العالقة مع المستعمر القديم والدولة الوطنية المنهكة والنخب السياسية الفاشلة والطبقات الاجتماعية المتهمة بالفساد واستغلال النفوذ خلال العقود الستة المنقضية.
أي تدخل عسكري في النيجر سيدفع بالبلاد نحو الفوضى العارمة، وسيؤدي ضرب وحدات الجيش إلى انهيار مؤسسات الدولة الضعيفة والبائسة، وسيتطلب وجود قوات احتلال وخاصة في العاصمة نيامي ليس فقط لإعادة الرئيس المعزول محمد بازوم إلى الحكم وإنما لحمايته من أي اعتداء مباشر قد يستهدفه، لاسيما أنه ينتمي إلى أقلية صغيرة لا تكاد تتجاوز 1 في المئة من عموم الشعب النيجري وهي توجد في مناطق نائية بجنوب شرق البلاد، بينما ينتمي الانقلابيون إلى أغلبية تصل إلى ثلثي المجتمع وتتحالف مع النسبة الأكبر من الثلث الباقي.
إن ما جاء على لسان رئيس الوزراء المعين قبل أيام علي محمد الأمين زين في مقابلته مع صحيفة “نيويورك تايمز”، من أنّ الجيش لن يلحق أي أذى بالريس بازوم، لا يمكن اعتباره موقفا نهائيا يعبر عن إرادة العسكريين، وإنما جاء في سياق الرد على سؤال بديهي، بينما يدرك الجميع أن للحرب أحكامها وحماقاتها، وفي حال دخول البلاد مرحلة الفوضى فإن لا أحد بإمكانه ضمان سلامة بازوم، والأمر هنا لا يتعلق فقط بأمر قد يصدر عن القادة من الضباط الكبار وإنما بمشاعر الاندفاع لدى الجنود الذين يتولون حراسته، والذين يعلمون أن الحرب المعلنة عليهم وعلى بلادهم إنما هي من أجل شخص تمت الإطاحة به من كرسي الحكم وتسعى قوى أجنبية لإعادته إلى السلطة بقوة السلاح وهو متهم بالخيانة العظمى وبالتفريط في مصالح البلاد العليا.
سيكون من السذاجة المفرطة الحديث عن إعادة الرئيس بازوم إلى الحكم بعد أن فقد تحالفاته السابقة التي وصلت به إلى الحكم في العام 2021، بما في ذلك علاقته التاريخية الطويلة بسلفه محمد يوسوفو الذي كان اشترك معه في تأسيس "الحزب الوطني الديمقراطي الاجتماعي” عام 1990، ثم تولى رئاسته عام 2011 بعد بلوغ يوسوفو منصب رئيس الجمهورية، وفقا للشرط الذي يقضي بأن رئيس الدولة لا يشارك في السياسة الحزبية.
والتحالفات السياسية والحزبية في بلد مثل النيجر يمكن أن توجد في ظل السلام الشامل والاستقرار السياسي والاجتماعي، لكنها تفقد قيمتها وجدواها ومعناها عندما تصطدم بالحسابات الإثنية والمناطقية والقبلية، فالقوة والمناعة مرتبطتان بالحاضنة الشعبية والقاعدة الاجتماعية الواسعة، وبالتالي بمستويات الانتماء العرقي والقبلي، وهو ما لا يتوفر للرئيس بازوم الذي لم يجد من يدافع عنه أو يتظاهر بشعارات الضغط من أجل إعادته إلى الحكم.
سيكون من الصعب إقناع النيجريين بأنه لا حل أمامهم إلا بعودة بازوم إلى كرسي الرئاسة في حين أن كل المؤشرات تؤكد على أن الحديث عن الديمقراطية لا يتعدى أن يكون أداة للسخرية والضحك على الذقون في بلد يعاني من أعلى معدل للأمية على مستوى العالم بحوالي 80 في المئة من سكانه، ومعدل الوعي فيه لا يتجاوز حوالي 15 في المئة، بينما لا يمتلك أكثر من 8 في المئة من الأطفال القدرة الحسابية واللغوية على المستوى الابتدائي، وأكثر من 50 في المئة من الأطفال لا يذهبون إلى المدرسة على الإطلاق، ويعتبر تعليم الفتيات منخفضا للغاية ولا يتم تشجيعه في ظل ضعف الاستثمار الحكومي في التعليم والذي لا يتعدى 4 في المئة فقط مما يعني أن المرافق والبنية التحتية التعليمية سيئة ولا تتوافق حتى مع كان سائدا في بدايات القرن الماضي.
ووفقا للبنك الدولي، فإن النيجر وصلت إلى مستوى من الفقر المدقع بلغ 42.9 في المئة في عام 2020 حيث كان نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي 540 دولارا لا غير، رغم أنها رابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وفي العام 2020 كان قرابة 35 في المئة من اليورانيوم المستخدم في المفاعلات الفرنسية يأتي من النيجر التي لم تستفد على مدار تاريخها كثيراً من ثراء تربتها، حيث لم تتجاوز مساهمتها في الميزانية الوطنية 1.2 في المئة.
ولا تتعدى نسبة من يحصلون على الكهرباء في النيجر 18.6 في المئة من سكان البلاد وفق إحصائيات عام 2021، وكان لا يزال لدى الدولة 150 مليون برميل من احتياطيات النفط الخام القابلة للاستغلال ولكن لم يتم الالتفات إليها بينما لا يزال الخشب مصدر الطاقة الرئيسي لما يقرب من 80 في المئة من الأسر في بلد تغطي الصحراء ثلثي مساحته ولا يزال معرضا بشدة للآثار الضارة للتدهور البيئي وتغير المناخ.
كل المؤشرات تؤكد أن فرنسا هي التي تقف وراء إصرار مجموعة "إيكواس" على التدخل العسكري لإعادة الرئيس المخلوع إلى قصر الرئاسة، ولكنه إصرار غير عاقل، وهو ناتج عن شعور لدى الفرنسيين بشروخ في جدار كرامتهم الوطنية جاء من مستعمراتهم التي يقال إنها قديمة بينما لا تزال قائمة في العقل السياسي الحالي وقد تستمر إلى ما لا نهاية.
تسعى باريس للمحافظة على مصالحها في النيجر في شخص السلطة التي من الأفضل أن تنتصب بأوهام ديمقراطية لا يصدقها الغرب نفسه، فيما كانت قادرة على بناء علاقات شراكة حقيقية بالتعاون المثمر ومن خارج دائرة الاستغلال الفاحش للثروات والتدخل المباشر في القرار الوطني لدول يبدو أنها شبت عن الطوق وقررت أن تختار طريقها من دون خضوع للوصاية الأجنبية حتى وإن كانت من المستعمر القديم.
أي تدخل عسكري في النيجر سينتهي إلى الفوضى والخراب، وبالتأكيد أن الجميع سيدفع الثمن بما في ذلك دول الجوار في إطار بؤرة جديدة سيتم خلقها في منطقة الساحل والصحراء.