شكّل الشرق الأوسط في الدبلوماسية الصينية نقطة تحوّل في سياستها الخارجية التي أخذت منحى انفتاحياً أشد وضوحاً لجهة المرامي والأهداف وبالتالي التداعيات والخلفيات، وقد حققت في وقت قياسي أشواطاً نوعية مهمة في المستوى الاستراتيجي، من خلال التعاطي مع دول تشكل بُعداً جيوسياسياً إقليمياً ودولياً متميزاً، كالعلاقات مع الخليج وغيرها من دول الشرق الأوسط.
ويأتي الدخول الصيني في تقريب ذات البين في العلاقات السعودية - الإيرانية، نتيجة بارزة لهذا التحوّل، ومن خلال ملف يعد من أهم وأبرز ملفات العلاقات في المنطقة، وهو في الأساس، يشكل تحدّياً لمستقبل دول المنطقة والدخول الصيني المباشر الذي تم التمهيد له مؤخراً وفي ظروف إقليمية ودولية مناسبة لمختلف الأطراف.
لقد رسخت الصين علاقة استراتيجية مع إيران من خلال اتفاقية الشراكة الاستراتيجية والتي تمتد زمنياً لربع قرن، والمتضمنة اتفاقات تجارية واقتصادية لا تخلو من أبعاد أمنية وعسكرية، وقد شكلت هذه الاتفاقية، تحديداً، مدخلاً صينياً لمنطقة هي الأشد حساسية للولايات المتحدة الأمريكية، ويعد الاقتراب المباشر منها مساً بالمجال الجيوسياسي الأمريكي في المنطقة. علاوة على أن الاتفاقية أتت في ظروف استثنائية جداً، لجهة التوقيت الإقليمي والدولي، الذي يمر بظروف حرجة لا زال الكثير منها قائماً حتى الآن.
في المقابل، استتبعت الصين دخولها الناعم إلى الخليج عبر بناء علاقة استراتيجية أخرى مع المملكة العربية السعودية من خلال اتفاقية شراكة كاملة، شملت ثلاثين اتفاقاً بأكثر من خمسين مليار دولار، وقعت خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2022، والتي اعتبرت من أبرز التحوّلات الصينية والخليجية التي يمكن البناء عليها في نطاق السياسات الصينية المعتمدة في العقود الثلاثة الماضية.
لقد مهدت بكين دخولاً آمناً إلى حد بعيد وسط قلق أمريكي واضح، برز في عدة مواقف تصعيدية لم تخل من تهديدات أمنية وعسكرية مباشرة للصين، إن كان لجهة قضايا حقوق الإنسان أو لجهة بحر الصين وتايوان وحتى غيرها من القضايا الثنائية ذات الصلة عالمياً، إلى أن وصلت لاحقاً إلى مستويات تصعيدية غير مسبوقة، بعد اندلاع الأزمة الروسية - الأوكرانية ومواقف الصين وإيران منها.
وتأتي الخطوة الصينية في محاولة ترميم العلاقات السعودية الإيرانية بعد ست سنوات ونيف من الانقطاع، لتسجل علامة فارقة في سياساتها الشرق أوسطية بعد التعامل الدبلوماسي المرن والحذر الذي اتصفت به سياسة بكين الشرق الأوسطية، وهو حراك دبلوماسي يتقاطع حالياً مع ظروف إقليمية ودولية حساسة جداً، ولا يقف بالتأكيد عند حدود العلاقات الثنائية الصينية الخليجية، على أن ثمة مؤشرات قوية وواضحة بأن نتائج التقارب المبدئي بين طهران والرياض ستترك آثاراً واضحة ومؤثرة في العديد من الملفات الرئيسية والفرعية الساخنة في المنطقة.
وبصرف النظر عن حجم الدور الصيني، ثمة عوامل مساعدة ومؤثرة أسهمت في إبراز هذه النتائج الواعدة، ومنها اللقاءات والزيارات والمواقف الموازية للوساطة الصينية، من بينها على سبيل المثال لا الحصر لقاءات بغداد مؤخراً التي جمعت مسؤولين سعوديين وإيرانيين برعاية من دول إقليمية كالإمارات وقطر وسلطنة عُمان وتركيا، ودولية كروسيا.
من المؤكد أن بناء جسور التواصل الثنائي السعودي الإيراني أمراً مهماً، بالنظر إلى حجم الدولتين على المستويين الإقليمي والخليجي تحديداً، وما يمكن أن يفتح آفاقاً واعدة لتسوية العديد من الملفات الإقليمية التي تعج بها المنطقة مند عقدين ونيف من الزمن، والتي تحتاج إلى المزيد من الرعاية اللصيقة، لما تشكل من آثار بالغة الحساسية والتداعيات.