للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة تخرج عبارة الدولة الفلسطينية من فم رئيس للوزراء في إسرائيل. لا شكّ أنّ ما قام به يائير لابيد عندما تحدث عن ضرورة وجود مثل هذه الدولة الفلسطينيّة أمام الجمعية العموميّة للأمم المتحدة يشكلّ مغامرة، خصوصا أنّه لا تفصل سوى خمسة أسابيع عن موعد الانتخابات الإسرائيلية. ليس معروفا هل لابيد مقتنع حقّا بقيام دولة فلسطينيّة مستقلّة قابلة للحياة وهل في استطاعته تسويق مثل هذا الطرح في وقت يصعب التكهن بردّ فعل الناخب الإسرائيلي.
يصعب التكهن بذلك بعد سنوات طويلة من التحولات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي الذي صار أكثر يمينيّة وتطرّفا بفضل ممارسات حركة مثل “حماس” لم تتردد يوما في وضع نفسها في وجه أي تسوية سلميّة خدمة لليمين الإسرائيلي، حتّى لو كانت مثل هذه التسوية شبه معقولة وتلبي الحدّ الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة التي ناضل من أجلها طويلا..
كان لافتا قول لابيد في كلمته في الأمم المتحدة إنّ “الاتفاق مع الفلسطينيين على أساس دولتين لشعبين، هو الشيء الصحيح لأمن إسرائيل واقتصاد إسرائيل ومستقبل أطفالنا”، مضيفا أن أي اتفاق سيكون مشروطا بدولة فلسطينية “مسالمة” لن تهدد إسرائيل. وأكد أن “غالبية الإسرائيليين تؤيّد حل الدولتين”، معتبرا أن “حل الدولتين مع الفلسطينيين هو الشيء الصحيح بالنسبة إلى إسرائيل. علينا أن نختار المستقبل بدل الماضي والسلام بدل الحرب… والفلسطينيون في إسرائيل ليسوا أعداء وإنما شركاء… والسلام ليس تنازلا ولا ضعفا”.
يحتاج مثل هذا الكلام، كي يصبح حقيقة على أرض الواقع، إلى فوز للتحالف الذي يضمّ لابيد وآخرين مثل وزير الدفاع بني غانتس في الانتخابات المقبلة وهي الخامسة في غضون أربع سنوات.
يمتلك رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، كونه لا ينتمي إلى اليمين المتطرّف، نظرة إلى المستقبل بعيدا عن الأفق الضيّق لنتنياهو وحلفائه الذين يعتقدون أنّ في استطاعتهم فرض أمر واقع اسمه الاحتلال الدائم للضفّة الغربيّة. هؤلاء يراهنون على أن الوقت يعمل لمصلحة إسرائيل في حين أن كلّ من يمتلك حدّا أدنى من المنطق يعرف أنّ المستقبل يفرض قيام دولة فلسطينيّة. لا لشيء سوى لأنّ الشعب الفلسطيني واحد. هناك ما بين سبعة وثمانية ملايين فلسطيني بين البحر المتوسّط ونهر الأردن، في أراضي 1948 وفي الضفّة الغربيّة وغزّة. هل تستطيع إسرائيل اقتلاع هؤلاء من أرضهم؟
في ضوء هذا المعطى، لا حلّ في المدى الطويل من دون الدولة الفلسطينيّة المستقلّة وذلك على الرغم من الحلف القائم بين “حماس” من جهة واليمين الإسرائيلي من جهة أخرى وعلى الرغم من حال الترهّل التي تعاني منها السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. تكتفي السلطة حاليا، وهذا ظهر من خلال خطاب رئيسها محمود عباس (أبومازن) بالشكوى من عدم رغبة إسرائيل في التفاوض. يمكن فهم هذه الشكوى، لكنّ العلاقات مع إسرائيل لا تعالج عن طريق البكائيات ومهاجمة السياسة الأميركيّة والتجاهل التام للخطر الإيراني على دول المنطقة. السؤال المهمّ ما الذي تفعله السلطة الوطنيّة الموجودة في رام الله للتأثير في مجرى الانتخابات الإسرائيلية في وقت يشكل الناخبون الفلسطينيون نحو عشرين في المئة من عدد الناخبين الإسرائيليين؟
في ظلّ المعطيات الإقليميّة والدوليّة القائمة حاليا، لا وجود لاستعداد إسرائيلي لأيّ خطوة جدّية في اتجاه المساعدة في قيام دولة فلسطينيّة. سيتاجر نتنياهو بكلام لابيد، وقد بدأ بذلك فعلا، وسيسعى للعودة إلى موقع رئيس الوزراء بعد انتخابات الأوّل من تشرين الثاني – نوفمبر المقبل. لن تعني عودة “بيبي” إلى موقع رئيس الوزراء غير تكريس الجمود، على الصعيد الفلسطيني. هذا الجمود لا يمكن سوى أن يخدم المتطرّفين الفلسطينيين والإسرائيليين… ولا يمكن سوى أن يمهّد لانفجار ومواجهات بين الفلسطينيين والاحتلال.
في المقابل، ليس ما يشير إلى أن الوضع الفلسطيني قابل للتطوير. هذا لا يعود إلى أن السلطة الوطنيّة مغلوبة على أمرها بعدما ارتضت بالاكتفاء بالتعاون الأمني مع إسرائيل فحسب، بل هناك موضوع الوحدة الوطنيّة الفلسطينية أيضا. استهدفت “حماس”، وهي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين الوحدة الوطنية الفلسطينيّة والمشروع الوطني الفلسطيني. استغلت إلى أبعد حد ضعف السلطة الوطنيّة ورغبة أبومازن بأن يكون الآمر الناهي الوحيد من جهة ورغبته في استبعاد أي شخصيّة فلسطينيّة تمتلك حيثيّة ما من جهة أخرى.
ذهب رئيس السلطة الوطنيّة إلى تخوين كلّ من لديه وجود سياسي في الأراضي الفلسطينيّة، داخل “فتح” خصوصا، وحتّى خارج فلسطين في العالم العربي. وضعت “حماس” يدها على غزّة منذ منتصف العام 2007. ليس ما يشير إلى رغبة لديها في التخلي عن القطاع أو في مصالحة فلسطينيّة – فلسطينيّة. كلّ ما في الأمر أنّها تنتظر اليوم الذي ستتمكن فيه من أن تكون السلطة الفلسطينية عبر صفقة تعقدها مع إسرائيل. لم تكن تجربة وقوف الحركة على الحياد في أثناء المواجهة الأخيرة بين إسرائيل و”حركة الجهاد الإسلامي” في غزّة سوى نموذج عن تصرّف وأسلوب عمل يمكن للحمساويين اعتمادهما في المستقبل!
عندما يتحدّث رئيس الوزراء الإسرائيلي عن الدولة الفلسطينيّة، يبدو أكيدا أن المشروع الذي يتطرّق إليه هو بمثابة استثمار في المستقبل كون إسرائيل لن تتمكن في أي يوم من الأيّام من القضاء على الشعب الفلسطيني الواحد. هذا الشعب موجود على خارطة الشرق الأوسط، كما كان يقول ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، الذي استطاع على الرغم من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها، في الأردن ولبنان وفي أماكن أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، من تكريس وجود الهويّة الفلسطينيّة.
سيتوقف الكثير على نتائج الانتخابات الإسرائيليّة… لكنّ رهان لابيد يظلّ رهانا في مكانه، وإن في المدى الطويل، في غياب القدرة لدى أكثرية الإسرائيليين على تفادي الاعتراف بالشعب الفلسطيني ووجوده. هذا شعب لن يختفي لا اليوم ولا غدا!