ربما كانت الانتخابات الإيطالية على الأعتاب، ولكن في سوق بالارو بمدينة باليرمو عاصمة جزيرة صقلية، شغف السكان ينصب حول الطهي، وليس السياسة.
تدوي صيحات البائعين، ما بين هؤلاء الذين يقطعون الحبار أو أولئك الذين يحاولون اجتذاب المارة بما يعدونه من "الأرانشيني" الذي تشتهر به المنطقة - وهو عبارة عن كرات مقلية من الأرز واللحم.
لا توجد شهية كبيرة للسياسة والسياسيين هنا. عندما تجولنا بين أكشاك الطعام الضيقة، قال لنا غالبية من سألناهم عن الانتخابات إنهم لن يصوتوا في اقتراع الأحد القادم. وكانت خيبة الأمل، والإحباط، والغش هي الكلمات التي سمعناها بشكل متكرر.
لكن سونيا كابيتسي، التي أخذت تكدس ثمار الرمان والبرتقال أمام مقهاها، كانت استثناء نادرا: لقد قاطعت الانتخابات السابقة، ولكن هذه المرة مختلفة.
تقول سونيا: "أرى احتمالا للتغيير، والسبب هو جورجيا ميلوني"، في إشارة إلى زعيمة حزب إخوان إيطاليا اليميني المتطرف التي تتصدر استطلاعات الرأي العام.
تضيف سونيا: "إنها تستميلني لأنها سيدة وأم وتتحلى بالشجاعة ولديها كاريزما".
في الانتخابات الأخيرة التي جرت في إيطاليا، حصل حزبها على أقل من 4 في المئة من الأصوات في صقلية، وهي نسبة تقل بفارق ضئيل عن نسبة الأصوات التي حصل عليها على المستوى الوطني، في حين أن حزب خمسة نجوم الشعبوي جاء في المقدمة بعد فوزه بقرابة 50 في المئة من الأصوات.
لكن بعد مرور أربعة أعوام، تقدم حزب إخوان إيطاليا بشكل كبير، ويكاد التحالف اليميني الذي يتزعمه الحزب يشم رائحة الفوز.
ومن المحتمل أن تصبح ميلوني البالغة من العمر 45 عاما أول سيدة تشغل منصب رئاسة الوزراء في إيطاليا، وأول رئيسة وزراء يمينية متطرفة منذ بينيتو موسوليني.
تحظى وعودها بتخفيض الضرائب وتبني موقف صارم تجاه الهجرة بتأييد كبير هنا. لكن تعهدها بإلغاء سياسة حزب خمسة نجوم التي يطلق عليها اسم "دخل المواطنين" - وهو نظام رفاهة يساعد هؤلاء الذين يعيشون تحت خط الفقر - تقسم آراء الناخبين.
كانت مناطق الجنوب الإيطالي الأكثر فقرا المستفيد الأكبر من تلك السياسة، التي لا تزال تعتبر عاملا جاذبا للأصوات بالنسبة لحزب خمسة نجوم. ولكن البعض، مثل سونيا كابريتسي، يتفقون مع ميلوني في أن السياسة شكلت عبئا ثقيلا على كاهل الدولة. تقول سونيا: "بسبب نظام الإعانات، يمكث الناس في بيوتهم ولا يعملون..كان ينبغي على الحكومة إيجاد وظائف بدلا من ذلك".
تكررت وجهة النظر هذه في ضواحي باليرمو، ولا سيما في حي "زِن" المعدم. تعتبر المنطقة واحدة من أكثر مناطق أوروبا فقرا، إذ تصل نسبة البطالة بها 50 في المئة بشكل عام، و80 في المئة بين الشباب.
بين مبناهما السكني المكدس، ينظر دومينيكو فينوتشي وبييرو غامبينو إلى ساحة تتناثر بها النفايات والزجاج المكسور. إلى جانب الساحة توجد سيارات مهشمة وصناديق قمامة. كلا الرجلين صوت لحزب خمسة نجوم في الانتخابات الأخيرة، ولكنهما الآن سيعطيان صوتيهما لجورجيا ميلوني.
يقول دومينيكو: "نريد أن تنَظف هذه المنطقة لكي تصبح أكثر أمانا بالليل...إنك لا تستطيع حتى أن تتخلص من القمامة لأنها تعج بالجرذان".
ويقول بييرو: "كنا نأمل أن تتغير الأوضاع على يد خمسة نجوم، لكنها كانت مجرد أقوال بدون أفعال، ولا يزال هناك انعدام في الوظائف. نشعر بأنهم تخلوا عنا، ونأمل في أن تعكف ميلوني على إصلاح الأوضاع".
لكن إيطاليا، بقدر ما يغلب عليها التنوع، تغلب عليها أيضا حالة من الانقسام في الوقت الراهن.
في الجهة الأخرى من البلاد، في مدينة مودينا الشمالية، تقدم أطباق "التورتيلوني" المحلية الشهيرة - وهي عبارة عن معكرونة محشوة باللحم - خلال مهرجان "فييستا ديلونيتا" الذي يعقده جناح يسار الوسط سنويا. هنا، الذائقة السياسية مختلفة تماما مقارنة بالمناطق المؤيدة لميلوني.
تركز الخطابات والنقاشات على كل شيء، من التعليم إلى الحرب في أوكرانيا، ويدور الحوار أثناء تناول وجبة العشاء حول كيفية منع إيطاليا من التأرجح نحو اليمين المتطرف.
تقول باربرا روسي، مديرة التسويق التي أتت إلى هنا مع أسرتها: "أشعر بقلق شديد بشأن جورجيا ميلوني - إنها أسوأ من يمثل النساء على الإطلاق. أنا قلقة من احتمال أن تقوض حقوقنا الإنسانية، لا سيما الإجهاض. إنها في رأيي تمثل الماضي - الفاشية - وتريد أن تستعيدها".
يشار إلى أن زعيمة إخوان إيطاليا تنفي بشدة وصمها بالفاشية، وقالت مؤخرا إنها شيء "متروك للتاريخ".
لكن جذور حزبها تعود إلى الحركة الفاشية الجديدة، وقد فسر البعض الشعلة الثلاثية التي يستخدمها الحزب شعارا له على أنها تمثل "النيران المشتعلة إلى الأبد" فوق قبر موسوليني، كما تم تداول فيديو على شبكة الإنترنت العام الماضي يظهر بعض أعضاء الحزب وهم يؤدون التحية الفاشية.
الشيء الأكثر وضوحا في برنامج ميلوني السياسي هو التوجه الاجتماعي المحافظ، لا سيما معارضتها للأسر التي يكون الأبوان فيها مثليين. فقد قالت بكل وضوح خلال اجتماع جماهيري لحزب فوكس الإسباني اليميني المتطرف: "نعم للأسر الطبيعية، ولا للوبيات مجتمع الميم".
يثير ذلك الذعر في قلب كل من كريستيان دي فلوريو وكارلو تومينو، وهما أبوان لتوأمين يبلغان من العمر أربعة أعوام أنجباهما من أم أمريكية بديلة. في حين يلعب الصبيان بمكعبات "الليغو" في المطبخ، يخبرني كريستيان وكارلو عن شعورهما بالأسى إزاء ما يعتبرانه محاولات من قبل ميلوني "لمحو أسر كأسرتنا من الوجود".
يقول كارلو إن "استراتيجيتها هي وضع تعريف للأعداء: فالأشخاص المثليون كما في حالتنا، أو العابرون جنسيا أو المهاجرون هم الأعداء - وأنا لا تعجبني الطريقة التي تعبر بها عن نفسها. إنها تبدو دائما غاضبة من الناس الذين لا يتماهون مع تصورها لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع. لكنني أعتقد أنه في هذا المجتمع، ينبغي أن يكون هناك مكان للجميع. هذا هو معنى الديمقراطية".
المعروف أن الأعراف الديمقراطية متأصلة في إيطاليا، ولكنها بشكل أو بآخر، تبدو باستمرار غير واثقة من الاتجاه الذي يتعين أن تسير فيه. فالمختبر السياسي الإيطالي ابتكر الفاشية، وانتخب قطب العقارات والإعلام الملياردير سيلفيو برلسكوني قبل عقدين من انتخاب دونالد ترامب، وانتخب حزبا شعبويا معارضا للمؤسسة السياسية، وجرب حكومات تكنوقراط، والآن يبدو عازما على انتخاب رئيسة وزراء من اليمين المتطرف.
وفي بحثها المستمر عن هوية سياسية، ها هي إيطاليا من جديد تجرب شيئا جديدا، أملا في أن يحدث تغييرا في نهاية المطاف. لكن الكثيرين هنا يشعرون بالقلق من أن القفز إلى المجهول ربما يقود إلى مسار مظلم.