وحدها حركة «طالبان» خرجت مستفيدةً من الحدثين الكبيرين في تاريخ أفغانستان المعاصر، خلال العقدين الأوّليْن من هذا القرن: من الغزو والاحتلال الأمريكيّ- الأطلسيّ لأراضيها؛ ثمّ من الانسحاب العسكريّ الأجنبيّ منها في صيف العام 2021. قبل هذين الحدثين، كانتِ الحركة قد استفادت من الانسحاب العسكريّ السّوفييتيّ وانغماس فصائل «المجاهدين الأفغان» في الحرب الدّاخليّة على السّلطة والنّفوذ، كي تجتاح مناطق سيطرتهم وتستولي على السّلطة بالقوّة، وتفرض نظامها السّياسيّ على البلاد بمساعدة باكستان، قبل أن يكلّفها إيواؤها لتنظيم «القاعدة» ثمناً فادحاً دَفَعَتْه من قواها ومن سلطتها بعد سنوات ستّ من قيامها.
استفادت من الغزو والاحتلال عن طريق إعادة بناء قواها، التي بعثرتْها الغزوةُ وفوضى التّراجع، ومن طريق التّعلّم من أخطائها التي أوقعتْها في المطبّ وأَذهبتْ نظامَها السّياسيّ؛ وأوّلها خطأ إتيانِ السّياسة بعقلٍ قُصْوَويّ متطرّف، لا يأخذ الممكنات وتوازُن القوى في الحسبان، فتأخذهُ إرادويّتُه ومبدئيّتُه الصّارمة إلى الاصطدام بواقعٍ موضوعيّ لا يفتح أمامه طريق تحقيق ما يريد. واليوم، تتبدّى هذه الاستفادة من تجربة الاحتلال في ذلك المنحى الجديد الذي يسلكه السّلوك السّياسيّ ل «طالبان»، والمطبوع بقدرٍ عالٍ من الواقعيّة والبراغماتيّة اللّتين تكادان تمْحُوان تلك الصّورة النّمطيّة التي تكوّنت عن الحركة وتهوُّرِها في الماضي.
وهي، بالقدر عينِه بل أكثر، استفادت من الانسحاب الأمريكيّ- الأطلسيّ من أفغانستان أيّما استفادة وعلى أكثر من صعيد:
استفادت، ابتداء، في عيون قواعدها وجمهورها ولدى قطاعات عريضة من الشّعب الأفغانيّ، الذين بدَتْ لهم في صورة حركة تحرُّر وطنيّ نجحت في إرهاق القوى العسكريّة الأجنبيّة واستنزافها وحمْلها، بالتّبِعة، على الجلاء العسكريّ. ويعزّز هذه الرّواية أنّ المعلومات الأمريكيّة والدّوليّة عن الخسائر البشريّة والآليّة والماليّة - التي لحقت قوى التّحالف في أفغانستان خلال العشرين عاماً من احتلالها - تشهد لها من زاوية تدليلها على أنّ كلفة الانسحاب باتت، عند الأمريكيّين وحلفائهم، أقلَّ فداحةً من كلفة البقاء العسكريّ في البلاد.
واستفادت، ثانياً، في تحصيل الاعتراف السّياسيّ الرّسميّ بها من أعدائها حين فاوضتها الإدارة الأمريكيّة على شروط الانسحاب - في مفاوضات الدّوحة - بصفتها العنوان السّياسيّ الرّسميّ في أفغانستان ومن غير أن تعترض على عودتها إلى السّلطة ثانية. وإذا كان المفاوض الطّالبانيّ مرناً في تلك المفاوضات - على نحو ما شهِد له الأمريكيّون بذلك - وملتزماً من جهته بتمكين الأمريكيّين وحلفائهم من الانسحاب الآمن، من غير ضغطٍ عسكريّ عليهم، فلأنّه أدرك الثّمن الكبير الذي حصل عليه: الاعتراف به كمفاوِضٍ باسم أفغانستان، وعدم الاعتراض على عودته إلى حكم البلاد.
ثمّ استفادت، ثالثاً، من إحجام الولايات المتّحدة وحلفائها في أفغانستان عن الدّفاع عن نظام أشرف غني من الانهيار أمام قوّات طالبان، حتّى في الوقت الذي كان يحتاج الحلفاءُ إلى بقائه لاستكمال انسحابهم وسحب رعاياهم من البلاد. والإحجام ذاك (عن الدّفاع عنه) قرأت فيه حركة «طالبان» ما تبغي قراءته: التّسليم الأمريكيّ والدّوليّ بسلطتها في البلاد أمراً واقعاً. وهو عينُه الذي ترسّخ حين وقع التّنسيق بينها والقوّات الأمريكيّة في كابُل لتسهيل وصول الرّعايا الأجانب إلى المطار بعد الزّحف البشريّ على محيطه.
ورابعاً، وأخيراً، استفادت من أيلولةِ أمورِ السّلطة في البلاد ومؤسّسات الدّولة إليها، وإقامتها سلطتَها وحكومتَها المؤقّتة بعد إنهائها حالة التّمرّد في الشّمال عسكريّاً. واليوم، ها هي دولة أفغانستان في القبضة السّياسيّة لحركة «طالبان» حتّى وإن هي فرضت ذلك بوصفه أمراً واقعاً. ومع أنّ دول الغرب لم تعترف بها رسميّاً، ولا بشرعيّة حكومتها المؤقّتة، إلاّ أنّها تتعامل معها كأمرٍ واقع.
يقول الكثيرون، مختصرين مشهد ما جرى، إنّ الحقيقة الوحيدة هي أنّ الحلفاء تركوا أفغانستان لِ «طالبان»، من غير أن يملكوا أن يقدّموا للبلاد خيارات أخرى. هذا صحيح، وقد أفصح عنه الرّئيس بايدن، من غير حرج، حين قال إنّ الأمريكيّين وحلفاءهم لم يدخلوا أفغانستان كي يبنوها أو يقيموا فيها نظاماً ديمقراطيّاً، بل من أجل القضاء على الإرهاب وحماية أمنهم القوميّ. ولكن، ما الذي يمكن لأحدٍ أن يطلب من الأمريكيّين وحلفائهم أن يفعلوه لأفغانستان إنْ لم يكن في هذا البلد من قوّة فعليّة وذات قدرة تمثيليّة غير حركة «طالبان»؟ ليس في وسعهم أن يخترعوا قوّةً بديلة، والدّليل أنّ القوى التي اعتمدوها وتعاونت معهم طوال العشرين عاماً من وجودهم العسكريّ تبخّرت في أيّام معدودات وكأنها لم تكن!