تدفع الإمارات بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ـ حفظه الله ـ ثمناً بالغاً لتمسكها بالقيم والمبادىء ومساندة الضعفاء والمحتاجين والمضي على درب الخير رغم كل ما يلحق بها من إساءات وتجاوزات وتطاول من جانب أعداء الشعوب بل أعداء الانسانية الذين يخوضون حروباً شرسة ضد كل من يسلك طريق الحق ويحافظ على مبادئه وسط طوفان المتاجرة بالدين والقضايا وآلام الشعوب ومعاناتها.
قبل وقف الحرب وبعدها، تواصل دولة الإمارات جهودها الانسانية في قطاع غزة ضمن عملية انسانية ضخمة وجه بها صاحب السمو رئيس الدولة تحت مسمى "الفارس الشهم 3"، وتضم كافة أنواع احتياجات الشعب الفلسطيني في القطاع، ابتداء من الخبر والمياه والعلاج وتلبية الاحتياجات الانسانية الأساسية وصولاً للعلاج على نفقة الدولة وفي مستشفياتها للمرضى وجرحي الحرب من المدنيين وأسرهم، وبما يعكس القيم الإنسانية لدولة الإمارات، ولست هنا بصدد رصد أرقام واحصاءات وحجم الدعم الانساني الذي تقدمه الإمارات ولا تزال، لأنه بكل المعايير يفوق ما قدمته الأطراف الأخرى جميعها، علاوة على أن الإمارات لا تتبع نهجاً دعائياً فيما تقوم به من مسؤوليات وأدوار تعتبرها جزءا لا يتجزأ من التزاماتها الانسانية التي لا تساوم عليها ولا تدرجها ضمن أي صفقات سياسية كونها تتعلق بالشق الانساني والالتزام الأخلاقي المتجذر في الوعي الجمعي للشعب الإماراتي وقيادته الرشيدة.
ولفهم أسباب احساس الإمارات بالمسؤولية علينا أن نفهم جيداً ما حدث فالمسألة لا تقاس بإظهار التعاطف ثم المضي في طريقنا، ولكنها ترتبط بالإحساس بالمسؤولية والقيام باللازم انسانياً والعمل على معالجة أسباب الصراع والتخلص من عوامل الكراهية التي تغذي الحروب وتوفر أجواء مناسبة للإرهاب والتطرف، ومن هذا المنطلق واستناداً إلى احصاءات دولية محايدة يمكن لنا فهم ما حدث جراء الحرب التي نتجت عن الهجوم الدموي الشنيع والارهابي في السابع من أكتوبر 2023، وما يتطلبه من جهد اقليمي ودولي جماعي، حيث نشرت "بي بي سي عربية" تقريراً أعده الأكاديميان كوري شير من مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك، وجامون فان دين هوك من جامعة ولاية أوريجون، واللذين درسا حجم الدمار الذي لحق بغزة استناداً إلى صور الأقمار الصناعية، وفي أحدث تحليل لهما حتى الحادي عشر من يناير الماضي، قدرا أن 59.8 في المئة من المباني في قطاع غزة تضررت أو دمرت منذ بداية الحرب، فيما بلغ حجم الحطام الناتج عن الحرب التي استمرت 15 شهراً، ما يعادل 17 ضعف إجمالي حطام جميع الحروب السابقة في قطاع غزة منذ عام 2008، حيث تشير بيانات صادرة عن منظمات دولية أن حجم الحطام في القطاع بلغ نحو 51 مليون طن، وقد تستغرق عملية إزالة جميع الأنقاض نحو 21 عاماً.
بموازاة كل ماسبق، تقوم الإمارات بدور دبلوماسي كبير لدعم جهود الوساطة التي تضطلع بها جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأمريكية، وقدمت للوسطاء كل دعم ومساندة سياسية ممكنة، ومن يعرف طبيعة مثل هذه الأزمات المعقدة يدرك أن الأمور لا تمضي فيها سوى من خلال شبكة دعم دبلوماسي قوية توفر للوسطاء القدرة على التواصل وبلورة المقترحات والأفكار والبدائل واقناع أطراف الأزمة بقبولها وفق الصيغ المطروحة أو بعد إدخال تعديلات كبيرة أو صغيرة عليها، كما تسعى الإمارات منذ بداية حرب غزة إلى التعامل بواقعية سياسية شديدة مع مرحلة مابعد الحرب، سواء لضمان استدامة الاستقرار والهدوء أو لتفادي أخطاء الماضي حيث تبقى عوامل الصراع كامنة حتى تحين لها فرصة جديدة. وقد ثبت بالتجربة، بل بالتجارب، أن كل أزمة ترتبط بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي أشد وأكثر دموية وعنفاً من سابقتها، وكان الدرس الأقسى من الحرب التي وضعت أوزارها مؤخراً سواء لجهة حجم الضحايا من الجانبين، أو الدمار والخسائر الباهظة في الاقتصاد الإسرائيلي وكذلك المبانى والبنى التحتية في قطاع غزة كما أسلفنا، والتي يصعب تعويضها بالشكل الذي كان معتاداً في مرات سابقة.
لم يكن سراً منذ البداية أن الإمارات تنخرط في نقاشات جادة حول مرحلة مابعد الحرب لإعادة بناء غزة، وقد أعلنت ذلك بوضوح غير مرة على لسان متحدثين رسميين، ولها في ذلك رؤيتها الخاصة التي تنطلق من فهمها العميق لعوامل وأسباب وبيئة الصراع وخبرتها الطويلة في العمل الانساني وعلى صعيد ترسيخ قيم التعايش والتسامح وتأطير هذه القيم وغرسها في المجتمع وصولاً إلى بناء حالة نموذجية من التعددية والانفتاح وقبول الآخر.
ويدرك أي مراقب متخصص أن الإمارات في إطار رؤيتها لمرحلة ما بعد حرب غزة تبنت منذ الأيام الأولى رؤية استراتيجية عقلانية وموضوعية لا تخدم ولا تستهدف سوى تحقيق الامن والسلام المستدام وضمان التعايش بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، ولكن الإمارات لا تتاجر بمواقفها ولا تضع نفسها في موقف الدفاع عن النفس وتتغاضى عن الصغائر والحملات الإعلامية المأجورة والمسعورة، وتمضي في طريقها إدراكاً منها أن الانخراط في الحروب الكلامية وحملات الشتائم المدفوعة ليس سوى هدر لوقت وجهود تتطلبه عمليات انقاذ ومساعدة الضحايا الأبرياء من الأطفال وكبار السن والنساء ومن يعانون جراء ويلات الحروب، فهم أولى بأي جهد ووقت قد يستنزفه الرد والاشتباك مع دعاة الفتنة وتجار الدين.
نعم حافظت الإمارات على علاقاتها مع دولة إسرائيل خلال فترة حرب غزة، ولكنها وظفت ذلك في تقديم كميات هائلة من المساعدات الانسانية للفلسطينيين داخل القطاع خلال ذروة الحرب واغلاق الممرات ما ساعد هؤلاء على البقاء ومواجهة هذه الظروف الكارثية، وعلى من يتخذ من ذلك منطلقاً للتشهير بالإمارات أن يفكر ولو للحظة في مصير هؤلاء فيما لو كانت الإمارات قد قررت قطع علاقاتها مع دولة إسرائيل، وتدبر العائد من وراء قرار كهذا سواء على الفلسطينيين أو على قضيتهم، فالدبلوماسية في الأخير هي فن إدارة الخلافات وكيفية إحداث تأثير في مواقف وسياسات وقرارات الطرف الآخر وليست القطيعة والعزلة والاكتفاء بالحروب الكلامية والضجيج والشعارات التي تجرعت منها الشعوب العربية في حقب زمنية سابقة وخلال أزمة غزة الأخيرة بما يكفيها لسنوات طويلة من دون أي تأثير إيجابي سوى الحسرة والندامة.
الإمارات تمتلك من الثبات على المبدأ والقدرة على الدفاع عن الحق ما يؤهلها للمضي في الدفاع عن المبادىء والقيم الانسانية التي تكفل الأمن والاستقرار والعيش المشترك في هذه المنطقة من العالم، لذلك فهي تخوض هذا الصراع مع أعداء الانسانية وقوى الشر بقناعة راسخة لدى شعبها وقيادتها الرشيدة التي تؤمن يقيناً بأن دولة الإمارات قامت وستبقى رائدة للقيم والمبادىء الانسانية والحضارية ونموذجاً يحتذى به في هذا الإطار.