جمشيد بن عبد الله اسم يحمل رمزية عميقة لفترة متقلبة في تاريخ شرق إفريقيا. عندما نذكر هذا الاسم، فإننا نقف أمام سيرة ليست عادية، بل مرآة تعكس صراع السياسة والقيم الإنسانية. إرثه لا يتمثل فقط في كونه آخر سلاطين زنجبار العرب، بل كرمز للصبر والحكمة، وسط أمواج المؤامرات والتحديات التي عصفت به وبشعبه.
ولد جمشيد بن عبد الله في 16 أيلول (سبتمبر) 1929 لعائلة آل بوسعيد الحاكمة، التي امتدت جذورها من عُمان إلى شرق إفريقيا، حيث أسس والده، السلطان عبد الله بن خليفة، نموذجاً فريداً للحكم يجمع بين الانفتاح التجاري والسياسي. ترعرع جمشيد في زنجبار، الجزيرة التي لم تكن مجرد مركز تجاري مزدهر، بل ملتقى حضارات وديانات، حيث امتزجت الثقافات العربية والأفريقية والهندية في لوحة فريدة. خلال هذه الفترة، شهد جمشيد التحولات الكبرى في المجتمع وتأثر بالأحداث العالمية التي ألقت بظلالها على زنجبار، مثل الحرب العالمية الثانية وصعود موجة التحرر من الاستعمار.
تولى جمشيد مقاليد الحكم في 1 تموز (يوليو) 1963، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، بعد وفاة والده السلطان عبد الله وتنحي أخيه خليفة من ولاية العهد. جاء صعوده إلى العرش في وقت حرج وحساس ومفصلي، فقد كانت زنجبار على وشك الاستقلال عن الاستعمار البريطاني الذي فرض سيطرته على الجزيرة منذ عام 1890. في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1963، أعلن السلطان جمشيد استقلال زنجبار كسلطنة دستورية ضمن ما يعرف بالكومنولث البريطاني. لم يكن الاستقلال مجرد إجراء سياسي، بل لحظة تاريخية حاول فيها السلطان جمشيد صياغة هوية وطنية جديدة لدولة متعددة الأعراق والثقافات.
ورث السلطان جمشيد مجتمعاً معقداً منقسماً لأسباب تاريخية واجتماعية، يتكون من أكثر من 100 ألف من الأفارقة من خلفيات مختلفة عرقية ودينية، و60 ألف عربي، السواد الأعظم منهم ينحدر من جذور عمانية، وقرابة 20 ألف من الآسيويين أغلبهم من جذور هندية وكشميرية. هذا التنوع العرقي كان نعمة ونقمة في الوقت ذاته، إذ شكّل فرصة لتعزيز التعددية، لكنه أيضاً غذّى الانقسامات الاجتماعية والسياسية. وما فاقم ذلك الانقسام ماكينة تحريضية من جيران وأعداء. كان السلطان جمشيد يدرك أن قوة زنجبار تكمن في تنوعها، فسعى لإصلاحات تضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المكونات. قام بتشكيل حكومة ائتلافية ضمت حزبين رئيسيين: حزب زنجبار الوطني (ZNP)، الذي يمثل العرب، وحزب شعب زنجبار وبمبا (ZPPP)، الذي يضم خليطاً من الأفارقة والآسيويين.
لكن التحديات كانت أعظم من طموحاته. ففي الانتخابات التي سبقت الاستقلال، حصل الحزبان الائتلافيان على 54 بالمئة من الأصوات، بينما حصل حزب أفروشيرازي، الذي يمثل الأغلبية الأفريقية، على 46 بالمئة. هذا التباين الانتخابي أفضى إلى شعور المكون الأفريقي بالتهميش، رغم أن السلطان حاول إشراكهم في الحكومة. استغلت القوى الخارجية هذا الوضع؛ فدعمت الاتحاد السوفيتي والصين الثوار الأفارقة بالمال والسلاح، فيما حاولت بريطانيا الحفاظ على نفوذها في الجزيرة.
إقرأ أيضاً: الصومال: تحديات مستمرة وآفاق التغيير
في ليلة 12 كانون الثاني (يناير) 1964، اندلعت الثورة التي أطاحت بحكم جمشيد. قاد الثورة جون أوكيلو، وهو إفريقي أوغندي من الحزب الأفروشيرازي، وأدى الانقلاب إلى مقتل ما يزيد على 17,000 من العرب والآسيويين في أحداث وُصفت بالإبادة الجماعية، إبادة حاول الكثيرون التقليل من آثارها وتهميشها أثناء السرد التاريخي. أُجبر جمشيد على مغادرة زنجبار إلى المنفى في بريطانيا، حيث استقر في مدينة بورتسموث مع عائلته. عاش السلطان حياة هادئة بعيداً عن السياسة، لكنه لم ينقطع عن متابعة أخبار زنجبار، التي اندمجت لاحقاً مع تنجانيقا لتشكيل تنزانيا في نيسان (أبريل) 1964.
تاريخ زنجبار تحت حكم جمشيد يشهد على حقبة انتقالية حرجة، تتشابك فيها المصالح الدولية بالهموم المحلية. لقد تعرض السلطان لتشويه إعلامي ممنهج؛ حيث وُصف بالاستبداد، رغم أن الوقائع تشير إلى تسامحه وحكمته. يكفي أن نذكر أنه، حتى بعد الإطاحة به، لم يطالب باستعادة الحكم بالقوة، ولم ينخرط في أي نشاط سياسي من شأنه إشعال الصراعات.
إقرأ أيضاً: بوروندي: أرض الفقراء الغنية بالفرص الضائعة
لقد عاد جمشيد إلى سلطنة عمان في سنواته الأخيرة، واستقبلته العائلة الحاكمة كرمز تاريخي يستحق التكريم. وهذا يفتح باب النقاش حول إرثه: كيف يمكن للتاريخ أن ينصف قائدًا حمل قيم التسامح في عالم يغلب عليه منطق القوة؟
قراءة تاريخ السلطان جمشيد ليست مجرد استعراض للأحداث، بل تأمل عميق في فكرة القيادة الإنسانية في مواجهة الظروف القاهرة. إرثه يعيد إلى الأذهان سؤالًا فلسفيًا: هل يمكن للقيم أن تنجو من عواصف السياسة؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب إعادة النظر في شخصيته بعيداً عن الدعاية التي استهدفته.
تجربة جمشيد تلخص مأساة القادة الذين يحاولون بناء جسور التعايش في مجتمعات ممزقة. إرثه لا يتمثل فقط في محاولاته السياسية، بل في الدرس الأخلاقي الذي قدمه للعالم: أن القوة الحقيقية لا تكمن في السلطة، بل في الصبر والتسامح حتى في أحلك الظروف. اسمه سيبقى جزءاً من تاريخ زنجبار وشرق إفريقيا، ليس فقط كآخر سلطان، بل كرائد في فلسفة القيادة القائمة على الإنسانية.
إقرأ أيضاً: جيبوتي: بوابة الاستقرار والتوازنات الاستراتيجية
اليوم، عندما ننظر إلى حياته، يمكننا أن نتعلم دروساً عميقة عن القيادة والإنسانية. التاريخ لا يكتب فقط من منظور الأحداث، بل أيضاً من منظور القيم. والسلطان جمشيد، رغم أنه فقد عرشه، إلا أنه كسب احترام العالم كقائد متسامح ومتواضع، فضل الصمت على الفوضى، والتسامح على الانتقام.
إرثه، الذي يتجاوز السياسة، يذكرنا بأن القادة العظماء لا يُقاسون بما يملكون من سلطة، بل بما يتركونه من قيم وأخلاق تظل صامدة في وجه الزمن. جمشيد بن عبد الله سيبقى رمزًا لهذه القيم، ودرساً إنسانياً يضيء صفحات التاريخ التي غالباً ما تكون مظلمة.