عندما انطلقت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في مسيرتها الثورية، والتي اتخذت مسار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، اصطدمت بجدار الواقع السياسي الذي فرض عليها إيجاد مسار رديف ينطلق بما تحققه البندقية وتحصده من إنجازات تراكمية تُبنى عليها دولة للفلسطينيين. فكان برنامج النقاط العشر الذي أُقر في العام 1974، ولعل أبرز بنوده: إنشاء سلطة وطنية على أي قطعة محررة من أرض فلسطين، والعمل الفاعل لإنشاء دولة علمانية ديمقراطية في فلسطين يتمتع فيها كل المواطنين بالمساواة والحقوق بغض النظر عن العرق، الجنس أو الدين.
كان لا بد من الدفع سياسياً لبيان الموقف الثوري الفلسطيني الناشئ، وتحويل مساقاته ليكون نهجاً يجلب الدولة الفلسطينية ويحققها على أرض الواقع، لكي لا تتحول البندقية الفلسطينية إلى بندقية مرتزقة أو قاطعي طريق.
وسيقَت الأحداث بتسلسلها التاريخي للوصول إلى لحظة توقيع اتفاق أوسلو، فكانت السلطة الفلسطينية، وأصبحت المقاربات السياسية أنضج في الصراع القائم مع الاحتلال، وأخذ الاشتباك أشكالاً تراعي الحسابات الوطنية الفلسطينية المنجزة، كون الاشتباك من خارج الوطن يختلف عن داخله، والعالم بين قطبين شرقي وغربي يختلف عن عالم يحكمه قطب واحد.
تمثلت الحسابات الفلسطينية في الحفاظ على بقاء الشعب وتعزيز صموده، ومن ثم استمرارية مؤسسات سلطته لتكون دولة قائمة على الاستمرارية، وهو ما حاولت إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة تفتيته هرباً من التزامات اتفاق أوسلو، الذي أسس كيانية سياسية فلسطينية، باعتراف صريح وبضمان أطراف دولية فاعلة بوجود شعب فلسطيني على أرضه يستحق تقرير مصيره وحكم نفسه بنفسه، وهو ما اعترفت لاحقاً به أجهزة ومؤسسات أممية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، بأن السلطة الفلسطينية قادرة على العبور بمؤسساتها إلى الدولة بمفهومها الشامل.
وسيقَت مجدداً الأحداث، وخاضت قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية الصراع من داخل الوطن بين مفاوضات راوحت مكانها وتصادم مسلح نال من قدرات مؤسساتها، فكانت الحقيقة أن الثمن الإنساني والسياسي مرتفع، فبات لا بد من مقاربات مختلفة تصل بنا إلى الدولة المستقلة.
ليأتي انقلاب حركة حماس في قطاع غزة، بغطاء إسرائيلي ساهم في تعزيز حكم الحركة وتثبيت أركانه، لاستكمال نهج الهروب من التزامات مسار أوسلو، لتسعى قيادة المنظمة والسلطة وعمودهما حركة فتح، لاستجداء المصالحة مع حماس خوفاً من مصير يهدد الكيانية السياسية الفلسطينية بالتشرذم والاندثار لصالح حكم الميليشيات والكانتونات الفصائلية التي تسعى إسرائيل ومنظومتها اليمينية الحاكمة لترسيخه كبديل عن السلطة الفلسطينية.
وكان السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بكل أحداثه التي ما زالت تلقي بظلالها على المنطقة، دون سردية سياسية يُبنى عليها من قبل حركة حماس وراعيها الإيراني وأذرع محوره، وبعيداً عن لغة الشعارات المستهلكة، وبكل واقعية تتطلبها المرحلة، خاصة بعد عودة دونالد ترامب ليحكم مسرح العالم السياسي والاقتصادي بارتجاليته المعهودة، ليكن السؤال أمام كافة شرائح المجتمع الفلسطيني وفصائله وساسته: ماذا سنحقق اليوم، وطناً أم دولة؟
إقرأ أيضاً: السعودية تهيئ لمعركة دبلوماسية كبرى
الوطن؛ هو كل الأرض. هل نستطيع في ظل الظروف الراهنة تحقيق الوطن بعيداً عن رومانسيات النضال وسحر الشعارات وبالإمكانيات والآليات المتاحة؟
الدولة؛ هدف سياسي من منظور واقعي يطمح إليه الشعب الفلسطيني ويتعلق بما أقرته الشرعية الدولية بتحقيق توازن بميزان قوى المجتمع الدولي، لإدارة لعبة المصالح التي يجب اليوم الانخراط بها في ظل الحقائق التي أوجدتها الحرب على قطاع غزة، وارتفاع خطر بسط السيطرة الإسرائيلية على مناطق ومدن الضفة الغربية.
إقرأ أيضاً: لن يسقط اتفاق أوسلو
فلسطينياً؛ الطريق إلى الوطن، وهو ذاته الطريق إلى الدولة. والحراك الدبلوماسي الفلسطيني المستند اليوم على مسارات المملكة العربية السعودية بسقفها السياسي للوصول إلى دولة مستقلة، يجب أن يقرأ متغيرات تراعي ما نملك من إمكانيات وآليات لتوظيفها في معادلات المصالح الدولية بمقاربة وطرح سياسي في ظل واقع أوجدته الحرب في قطاع غزة ولبنان، واقع بات محكوماً بسقوط أجندات محاور إقليمية بالية، وبعودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض.