في عام 1950، كان متوسط عمر الإنسان في مصر يتراوح بين 41 إلى 43 سنة، وفي عام 2023 أصبح متوسط عمر الإنسان في مصر يتراوح بين 73 إلى 74 عاماً، وهي قفزة كبيرة جداً بفضل الرعاية الصحية، والوعي الصحي العالمي، واللقاحات، والأهم انخفاض وفيات المواليد الجدد.
وكان إذا بلغ الرجل سن الستين يكون ذلك كافياً جداً، ولن "يأخذ زمنه وزمن غيره".
وفي منتصف القرن الماضي، كنت تقرأ مثلاً في الجريدة خبراً مزعجاً: "تزوج فلان وهو شيخ في الخمسين من فتاة صغيرة في السادسة عشرة من عمرها".
شخصياً، كنت أعتقد بأنني سوف أتقاعد منذ سنوات عدَّة، بالرغم من أني كنت أعتبر نفسي شاباً صغيراً، وألفت نظر بعض السيدات (اللاتي أرجو ألا يكن ضعيفات النظر). وكان معظم زملاء الدراسة قد أصبحوا أجداداً منذ سنوات عديدة، وكنت أتفاخر بأني ما زلت شاباً لأني لست "جداً" بعد (حيث إنني تزوجت متأخراً). ولكن، منذ أكثر من سنتين أصبحت جداً عن طريق ابنتي الكبرى، وانتشرت "الشماتة" بين كل أصدقائي وزملائي، وأصبحوا يرسلون لي رسائل من نوع: "إزيك يا جدو"، "إيه أخبار الحفيدة يا جدو"، "متى سنرى الحفيد الثاني يا جدو"؟!
وبالرغم من أني أصبحت "جداً"، إلا أني كنت سعيداً بالحفيدة التي دخلت حياتنا، وكنت أسعد لسعادة ابنتي التي فاقت سعادتها كل سعادة بابنتها.
أوَّل مرَّة شعرت بكبر السن، كانت عندما كنت أذهب إلى "الجيم"، وكان هناك مدرب ممتاز من تونس. وفي مرة انقطعت عن ارتياد "الجيم" لفترة طويلة، وعندما عدت إليه بعد عودتي من السفر، استقبلني المدرب التونسي مرحباً وقال لي: "فينك يا باشمهندس". قلت له: "كنت مسافر"، ثم رد علي قائلاً: "لا تغيب علينا، أنت البركة بتاعتنا!!" انزعجت جداً من كلمة "البركة"، ورددت عليه فوراً وقلت له: "بركة في عينك قليل الأدب!" وضحكنا سوياً.
وفي مرة، ركبت مترو الأنفاق في القاهرة من حي المعادي إلى ميدان التحرير، وعندما صعدت فوجئت بشاب مهذب يقوم من مقعده ويقول لي: "اتفضل اقعد يا حاج". ترددت قليلاً، ثم شكرته وجلست في مكانه، ولكني قلت له في سري: "يخرب بيت أدبك!"، وأخذت أنظر حولي لكي أرى فعل باقي الركاب، ولم أر أي رد فعل على وجوه باقي الركاب، مما أكد لي بما لا يدع مجالاً للشك بأني أصبحت رسمياً "حاجاً" فعلاً!
وحكى لي شقيقي أنه كان يركب الأتوبيس في مدينة تورونتو في كندا، وشاهد امرأة كندية متوسطة العمر، فقام لها تأدباً وأخلى لها مقعده. فما كان منها إلا أنها رفضت الجلوس ووبخته قائلة: "أنت فاكر أني كبيرة في العمر؟ أنا يمكن أصغر منك". فرد عليها أخي بالمصري: "اتفلقي، إن شاء الله عمرك ما قعدتي!".
وفي حكاية مشابهة حدثت لي منذ سنوات بسيطة، وكان شعري شائباً، عندما كنت أجلس في أتوبيس في مطار جدة، وصعد رجل كبير في السن شعره أبيض تماماً وله ذقن كبيرة بيضاء وكأنه بابا نويل. وعندما رأيته اعتقدت أني ما زلت شاباً صغيراً، فقمت له من مقعدي وقلت له: "اتفضل اقعد يا حاج". فنظر لي بتردد كبير ولسان حاله يقول لي: "عيب... إحنا دفعة واحدة من نفس السن تقريباً". وبعد تردد جلس مكاني وشكرني، ولكني شاهدت دهشة كبيرة في عيون باقي الركاب عن هذا "الحاج" الذي يترك مكانه لـ"حاج" آخر.
...
ومؤخراً، منذ سنوات عدَّة، صادقت أميركياً عمره 90 سنة، ونذهب كل يوم سبت لتناول طعام الغداء في مطعم قريب من محل سكنه. وهو ما زال بصحة معقولة ويعيش في كومباوند لمعيشة المسنين. وأكون في غاية السعادة عندما أدخل المبنى الذي يسكن به، حيث أشعر أني شاب أصغر من معظم السكان بعشرين سنة على الأقل. ومرة التقينا في ردهة الدور الذي يعيش به بجارة مسنة له تبلغ من العمر مئة سنة، وعندما رأتني معه قالت له: "أهذا ابنك؟" وكنت في غاية السعادة والامتنان لهذه السيدة، التي أخرجتني من عباءة "الحاج" إلى دور الابن. واكتئب صديقي جداً، وأخذت أسخر منه وأقول له: "يبدو بأن عمرك 120 سنة وليس 90 سنة!".
...
والحقيقة أني أشعر بأن الحياة جميلة لمن يفهمها، على رأي فريد الأطرش عندما غنى: "الحياة حلوة... بس نفهمها". ولكنها رغم جمالها وحلاوتها، فإنها قصيرة، والخاتمة ليست جميلة في معظم الأحيان. وعندما نتقدم في السن، من المفروض أن نزداد حكمة وخبرة، ولكن للأسف تأتي هذه الخبرة والحكمة بعد فوات أوان استخدامها، أو كما قال الكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو مرة عندما كبر في السن: "الحكمة تأتي عادة متأخرة بعد فوات الأوان كمن يهديك مشطاً لتمشيط شعرك بعد أن يكون قد سقط معظمه!".
...
أضع خلف مكتبي لافتة تقول باللغة الإنجليزية:
If You Are Healthy Everything Else Is A Bonus