خاص- إيلاف: ولدت قضية الصحراء المغربية في صيغتها المعاصرة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1975 كجزء من مشروع تقسيمي إثر رفض الجزائر لمخرجات المسيرة الخضراء واتفاقية مدريد لنقل السيادة ومصادقة الجماعة الصحراوية عليها، ثم انخراطها في دعم وتمويل حرب عسكرية وديبلوماسية ودعائية هدفها إضعاف المغرب وتحويله إلى ملحقة من ملحقات الحرب الباردة، برهان توسعي هيمني يمكن توصيفه بما نقله أحد القادة المؤسسين لجبهة البوليساريو الانفصالية عن الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين "غاندير حجرة في سباط المغرب" (سأضع حجرة في حذاء المغرب)، وهي المقولة الدالة اليوم على حجم الانعطافة الكبيرة التي حدثت في الـ 25 سنة الماضية من حكم الملك محمد السادس، مع التحول إلى النقيض لتصبح القضية "حجرة في حذاء حملة الانفصال ورعاته".
الملك محمد السادس في الاتحاد الافريقي لأول مرة (2017)
لقد كانت الـ 25 سنة الأولى مرحلة مدافعة مكنت من تثبيت الإنجاز التاريخي باسترجاع الصحراء في محطتين: الأولى في عام 1975، والثانية في عام 1978 بحسم عسكري بطولي استغرقت معاركه أزيد من عشر سنوات وحصن بمشروع جدران رملية دفاعية. وتلته مرحلة صراع سياسي أممي بعد نهاية الحرب الباردة بهدف تنظيم استفتاء لتقرير المصير وسط خلاف حاد ومصيري حول قائمة المصوتين، والتي صدرت قائمتها الأولى في 1999 كاشفة عن إقصاء أزيد من ثلثي ساكنة الصحراء (أعلن في القائمة عن 84 ألف إسم وقدمت أزيد من 150 ألف طعن) بما جعل من قبول الاستفتاء مع تلك القائمة ليس سوى وضع السكين لتقسيم المغرب.
وبين الحسم العسكري والصراع السياسي تمت محاصرة المغرب إفريقيا مع المغادرة الاضطرارية له من منظمة الوحدة الإفريقية في 1984، أي أنها عسكريا وسياسيا وأفريقيا خدمت مشروع الرئيس بومدين أن تكون "حجرة في حذاء المغرب"، وفرضت جهودا استثنائية لتجاوز ذلك.
من الجلي أن الإرث لم يكن سهلاً، لكن النظر إلى الحصيلة بعد 25 سنة يكشف عن انعطافة استراتيجية كبرى انتقلت معها القضية من طور إلى طور آخر.
أولاً، انتقل حل النزاع من مشروع استفتاء على مقاس الانفصال إلى تبني الأمم المتحدة لمشروع حل سياسي واقعي عنوانه حكم ذاتي بدعم من القوى الدولية الكبرى، وتكرس ذلك منذ تقدم المغرب بمشروع حكم ذاتي في إطار السيادة المغربية مع إعادة تعريف النزاع بما هو نزاع إقليمي طرفاه الرئيسيان المغرب والجزائر، وأنها في الجوهر قضية تقسيم وتجزئة وليس قضية تصفية استعمار، فهذا الأخير تمت تصفيته في 1975. كما تجلى الثبات في هذا الموقف في مواجهة انحياز المبعوث الأممي الأسبق الأميركي الجنسية كريستوفر روس في 2012 أو في انحراف الأمين العام السابق بان كيمون في 2016 بتجاوزه لقرارات مجلس الأمن حيث تم تجميد التعامل مع الأول ومراجعة وضع بعثة الأمم المتحدة بالصحراء (مينورسو) مع الثاني.
ثانياً، توسع الدعم الإفريقي لمغربية الصحراء وانحصر داعمو خصوم الوحدة الترابية لأقل من الثلث. وتعزز موقع المغرب في الاتحاد الأفريقي بعد عودته في 2017، وانتهى زمن توظيف المنظمة الإفريقية في مشاكسة مطالب المغرب في الأمم المتحدة في سياق عالمي تقلص فيه عدد الدول الداعمة للانفصال من 84 دولة إلى حوالي 20 بما نسبته 15 في المائة.
ثالثاً، تجاوز الاكتفاء بدعم مشروع الحكم الذاتي إلى الدعوة للإعلان الصريح عن مساندة مغربية الصحراء، ونشوء اصطفاف جديد تبعاً لذلك، مع إعلان الولايات المتحدة الأميركية عن اعترافها بمغربية الصحراء، وتلتها إسبانيا كدولة لها رمزيتها باعتبارها الدولة المستعمرة السابقة، مع فتح حوالي 30 قنصلية في مدينتي العيون والداخلة.
رابعاً، تجسيد التوجه الاستراتيجي الجديد القائم على أن "ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم" فهو "المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات" كما جاء في خطاب الملك في 20 آب (أغسطس) 2022، وأصبح المس بالقضية مكلفاً مع صمود وثبات في الموقف، وهو ما توقفنا عنده في الموقف الأميركي في عهد الرئيس باراك أوباما بالسعي لتوسيع اختصاصات بعثة "مينورسو" في 2013، أو مع هولندا في اتفاقية الضمان الاجتماعي بطرح استثناء سكان الصحراء في سنة 2014 ليتم اعتماد اتفاقية من دون إقصاء أو استثناء، أو مع الاتحاد الأوروبي في محاولة استثناء الصحراء من اتفاقية الصيد البحري في سنة 2015 حيث تم اعتماد اتفاقية جديدة في أغسطس 2019 أدمجت الصحراء في نطاق تطبيقها لتجاوز قرار محكمة العدل الأوروبية السلبي، أو مع السويد في سنة 2015 عند السعي لاعتراف البرلمان السويدي بجمهورية الانفصاليين ليقع التراجع بعد ذلك، وبعده في الموقف من ألمانيا التي صححت موقفها، ثم لاحقاً رفض الغموض الفرنسي الذي امتنع عن التعبير العلني عن دعم مغربية الصحراء ثم تراجع نحو اعتراف جزئي ذي حمولة اقتصادية.
خامساً، عدم رهن تنمية الصحراء بالحل النهائي للنزاع، بإطلاق مشروع تنموي ضخم بموازنة تفوق 10 مليارات دولار مع تحويل الصحراء إلى رافعة اقتصادية بمشاريع الهيدروجين الأخضر والطاقات المتجددة والفلاحة السقوية وميناء الداخلة الأطلسي، وتأمين ذلك بقانوني الحدود البحرية الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة إلى 200 ميل بحري، وإنهاء العبث الانفصالي بتحرير معبر الكركرات، وإطلاق مشروع المبادرة الأطلسية لدول الساحل (تشاد، النيجر، بوركينا فاسو، مالي، موريتانيا والسنغال) بموازاة التقدم في مشروع الغاز نيجيريا-المغرب-أوروبا.
سادساً، الحسم العسكري والأمني مع الاستفزاز الانفصالي في إطار الشرعية الدولية وإنهاء وهم المناطق المحررة شرق الجدار وفضح زيف أسطوانة الحل العسكري كبديل عن الحل السياسي، بل أصبحت الصحراء المغربية المنطقة الآمنة الوحيدة في الساحل والصحراء الكبرى.
استقبال حار للملك محمد السادس في الاتحاد الافريقي
سابعاً، استيعاب طموحات الجيل الجديد من أبناء الصحراء المغربية من مواليد ما بعد الحرب، أي عقد التسعينيات، وتقديم أجوبة ثقافية واقتصادية وتدبيرية في إطار الدستور الجديد والجهوية المتقدمة بتأكيد البعد الصحراوي الحساني في هوية المغرب المتعددة المكونات وتيسير انخراط أبناء الصحراء في منظومة تدبير شؤونهم بانتخابات منتظمة ومؤسسات بصلاحيات فعلية، أنهت وهم ادعاء تمثيلية الساكنة من طرف جبهة البوليساريو.
في مختلف النقاط السبع أعلاه، اشتغل الملك محمد السادس بنفس استراتيجي تراكمي واقعي وصبور ومسؤول، جعلت من الـ 25 سنة الماضية سنوات الانعطافة الكبرى، وتؤشر على نوع من القيادة الاستراتيجية مكنت من كسب معركة في وقت تقدمت فيه مشاريع الانفصال في العديد من المناطق ونشأت معها دول جديدة بل وظهر جيل جديد من الطموحات الانفصالية، أصبح معه مشروع الدويلة الصحراوية مجرد ماض.
*مصطفى الخلفي | وزير الاتصال والعلاقات مع البرلمان السابق، مؤسس المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة