إيلاف من الرباط: عرف الملك محمد السادس، وهو أول عاهل مغربي في تاريخ البلاد يتحدث اللغة الإسبانية بطلاقة، إسبانيا، عن قرب، لحظة المخاض الكبير عقب وفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو عام 1975.
الملك محمد السادس والملك فليبي السادس في إحدى لقاءاتهما
وكان الملك شاهدا على الكثير من اللحظات المفصلية التي عاشتها العلاقات المغربية - الإسبانية، وهو ما جعله ملمًا بتفاصيل العلاقات بين التاجين المغربي و الإسباني وتناقضاتها الجمة، طبعته العلاقات الإنسانية بين والده الراحل الملك الحسن الثاني بصديقه الملك الإسباني خوان كارلوس الأول، الذي ذرف دموعا ملكية ساخنة أمام ولي العهد، الذي صار ملكا، لحظة جنازة الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يناديه خوان كارلوس بـ" الأخ الأكبر"، وعندها قال خوان كارلوس للملك المغربي الجديد عبارة أشبه بالعهد: " اليوم الأخ الأكبر، هو أنا".
محمد السادس أيام كان وليا للعهد مع الامير فليبي ولي عهد إسبانيا انذاك
كان الملك محمد السادس، وهو ولي للعهد، متتبعًا لتفاصيل التحولات العميقة بشبه الجزيرة الإيبيرية، ومدركا لأهمية إسبانيا بالنسبة لبلده حتى أنه خلال زيارته الرسمية الثانية لإسبانيا في شهر مايو 1997، قال في حوار نادر لصحيفة "ايل باييس" الذائعة الصيت: "إنه في العلاقات المغربية - الإسبانية ليست هناك مشاكل من دون حلول".
وعندما اعتلى الملك محمد السادس عرش أسلافه، صيف عام 1999، سيجد أمامه مشاكل تواجه العلاقات المغربية - الإسبانية على رأسها مشكلة تجديد اتفاقية الصيد البحري بين المغرب و الاتحاد الأوروبي، و الموقف الإسباني المتحجر بخصوص قضية الصحراء المغربية ودعم الشارع و الأحزاب الإسبانية لجبهة البوليساريو الانفصالية والأحداث المتسارعة المرتبطة بمدينتي سبتة ومليلية منذ منتصف عقد تسعينيات القرن الماضي. وفوق ذلك وجود حكومة للحزب الشعبي اليميني ترأستها شخصية يمينية متشددة هو خوصي ماريا أثنار الذي لم يكن حبل الود موصولا بينه وبين الملك الراحل الحسن الثاني إلى درجة أن العاهل المغربي أسر لعبد الواحد الراضي، رئيس مجلس النواب وقتها، وهو يستعد لزيارة اسبانيا عام 1998 بأنه "غير مرتاح للعلاقات مع اسبانيا في ظل وجود شخصية مثل خوصي ماريا أثنار".
الملك محمد السادس والملك فليبي السادس والملكة ليثيثيا وبدا وراءهما الامير مولاي الحسن ولي عهد المغرب
نبوءة الملك الحسن الثاني ستتحقق عندما شرع أثنار في مضايقة المغرب لفرض شروطه لتجديد اتفاقية الصيد البحري، وهو ما تصدى له الملك محمد السادس بكل حزم، وسحب سفيره عبد السلام بركة من مدريد عندما تزايدت المضايقات الإسبانية، ودخلت العلاقات الثنائيةمرحلة شد الحبل.
استقوى أثنار بعلاقاته مع الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن عقب أحدث 11 سبتمبر 2001 والتحضير للحرب على العراق، وحاول لي ذراع المغرب لإخراج بضعة دركيين مغاربة من صخرة جزيرة صغيرة اسمها "ليلى" او " المعدنوس/ بريخيل" صيف 2002، كان قد وضعهم المغرب فيها لمراقبة الهجرة غير الشرعية و الاتجار في المخدرات.
قاد أثنار عملية عسكرية فيها الكثير من البهرجة واستعراض العضلات لإخلاء الصخرة المغربية، كان اختبارا كبيرا في السياسة الخارجية للملك الجديد وقتها وأساسا في العلاقات مع اسبانيا، أداره الملك الشاب بكثير من الحكمة والرزانة و نهج دبلوماسي راقي أثار دهشة المراقبين الدوليين، حتى أن وزير الخارجية الأميركي وقتها كولن باول، والذي قاد عملية الوساطة بين البلدين، لم يتردد في السخرية من ايقاظ آنا بلاثيو، وزيرة الخارجية الإسبانية آنذاك، له فجرا لحل المشكلة مع المغرب. وقال لمجلة أميركية عام 2004 "كانت ستكون أول حرب بسبب حجرة تافهة".
الملك محمد السادس مرحبا بالملك فليبي السادس وقرينته الملكة ليثيثيا
ظل الملك محمد السادس معتقدا أن بين المغرب واسبانيا هناك دائما حلول لكل المشاكل، وهو ما جعله يوافق على منح رخصة استثنائية لصيادي منطقة غاليسيا للاصطياد في المياه المغربية شهورا بعد أزمة جزيرة ليلى عقب الكارثة البيئية التي تسببت فيها ناقلة البترول "بريستيج"، ونجحت سياسته الحكيمة في إرجاع المياه إلى مجاريها بعقد البلدين للقمة العليا المشتركة المغربية - الإسبانية بمراكش في شهر ديسمبر 2003 ، وفتح صفحة جديدة مع الجارة الشمالية للمملكة المغربية.
لا شك في أن التغيير الذي عرفته اسبانيا بمجيء الاشتراكيين لقصر لامونكلوا بمدريد عقب انتخابات 14 مارس 2004، وخروج أثنار مطأطأ الرأس عقب تفجيرات قطارات الضواحي التي هزت محطة أتوتشا يوم 11 مارس 2004، سيمنح الملك محمد السادس فرصة ذهبية للدفع بالعلاقات المغربية - الإسبانية في جميع مجالات التعاون الثنائية، وجر اسبانيا تدريجيا لتفهم عدالة الموقف المغربي إزاء قضية الصحراء المغربية، وفي هذه المرحلة ستلعب الشخصية الهادئة لخوصي لويس رودريغيث ثباتيرو، و المصداقية التي يتحلى بها وزير خارجيته ميغيل أنخيل موراتينوس لدى المسؤولين المغاربة دورا محوريا في التقارب السياسي بين البلدين لاسيما أنهما معا كانا مقتنعين بضرورة إيجاد تسوية سريعة لقضية الصحراء المغربية خارج منطق الاستفتاء الذي بات متجاوزا.
وبغض النظر عن سحابة الصيف التي عبرت العلاقات بين البلدين عقب زيارة ملك وملكة اسبانيا لسبتة ومليلية خريف عام 2007، فإن الأولوية التي كان يعطيها الملك محمد السادس للعلاقات مع التاج الإسباني ورغبته العميقة في تذويب الخلافات في شبكة من المصالح المتداخلة كان حاسما في سرعة تجاوز الخلافات والمضي في سبيل التعاون، مثلما شكل المقترح المغربي بمنح الأقاليم الصحراوية حكما ذاتيا موسعا فرصة سانحة لإسبانيا لمراجعة موقفها التاريخي المتحجر من قضية الصحراء المغربية، وأبدت الدبلوماسية الاسبانية تفهما كبيرا للمقترح المغربي بيد أن جحافل الداعمين للانفصال كانت أكبر حجرة عثرة أمام ثباتيرو وعدد من حكماء الحزب الاشتراكي الإسباني المدركين لأهمية المغرب كشريك موثوق في زمن الأزمة الاقتصادية التي عصفت باقتصاد شبه الجزيرة الإيبيرية.
كانت عودة الحزب الشعبي إلى السلطة عقب انتخابات نوفمبر 2011 تحولا مقلقا بالنسبة لصناع القرار بالمملكة المغربية بيد أن هذا القلق سرعان ما تحول إلى طاقة ايجابية للدفع بالعلاقات بين البلدين، وأبان الملك محمد السادس عن برغماتية سياسية وحنكة دبلوماسية كبيرة في جعل اليمين يتخلى عن عقده التاريخية ويبحث عن مصالحه الآنية مع المغرب، مثلما أدرك اليمين أخطاءه السابقة وخرج من دائرة تأثير تياره المتشدد، بل إن زعيمه ماريانو راخوي غمز أكثر من مرة بأهمية مقترح الحكم في العلن ودعمه في أكثر من مناسبة في السر.
ولدت اسبانيا جديدة ليلة 20 ديسمبر 2015 عندما دخلت أحزاب جديدة إلى البرلمان وأساسا حزب بوديموس اليساري المتطرف المناوئ للوحدة الترابية للمغرب، مثلما عاش الحزب الاشتراكي الإسباني زلزالا تمخض عنه مجيء جيل جديد بإيديولوجية غير معتدلة للامساك بمقود قيادة الحزب، بينما توارى اصدقاء المغرب القدامى إلى الصفوف الخلفية، وبدا راخوي مهيض الجناح سياسيا، كان كل شيء يتغير داخل إسبانيا، وكانت عين المغرب على كل ما يحدث، وحتى عندما طرد راخوي من قصر لامونكلوا بعد نجاح أول ملتمس رقابة في تاريخ اسبانيا الديموقراطية يوم 1 يونيو 2018، حاول المغرب مد الجسور مع الوافد الجديد بيد أن قناعات الاشتراكي بيدرو شانسيز غلبته في عدة لحظات ولم يدرك كنه العلاقات مع المغرب إلا بعد مواجهة ساخنة صيف عام 2021، كان المغرب قد وصل، لحظتها، إلى قناعة أنه لا شراكة من دون احترام الشركاء للوحدة الترابية للمملكة، وبعد شهور أزمة عسيرة خرج المغرب منتصرا بإعلان بيدرو سانشيث عن تحول تاريخي في موقف مدريد من قضية الصحراء بالتحول من دعم تقرير المصير إلى دعم خطة الحكم الذاتي، كانت تلك "ضربة معلم" دبلوماسية للملك محمد السادس، وعنوان نجاح كبير لربع قرن من دبلوماسية هادئة وبعد نظر رافقا العاهل المغربي في رحلة المد والجزر مع اسبانيا، وهو ما توجه بانتزاع دعم تاريخي لمشروع الحكم الذاتي المغربي من المستعمر القديم للصحراء ، أصاب أعداء المغرب بمغص موجع في الفهم.
لقد نجح الملك محمد السادس، طيلة ربع قرن من الزمن، في تحويل مقولته عندما كان وليا للعهد إلى واقع: " في العلاقات المغربية-الإسبانية ليست هناك مشاكل من دون حلول".
*نبيل دريوش | كاتب متخصص في العلاقات المغربية -الإسبانية