بقلب بهو المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالرباط، تعتلي صورة كبيرة الفضاء. بدلالاتها العميقة، جعلناها عنوانًا لمعرض دائم ومتواصل طيلة السنة، تخليدًا لذكرى عشرينية إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة ومسارات الإصلاحات، التي ارتبطت لعقدين ونيف بمخرجات تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب وتوصيات المصالحة والإنصاف والحقيقة.
إنها صورة لعناق عفوي بين الملك وأمهات وآباء ضحايا انتهاكات الماضي، بالقصر الملكي، بمناسبة تسلم جلالة الملك محمد السادس للتقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة وإصداره لقرار نشره وتتبع إعمال توصياته. في رمزية الصورة تعبير صريح وعفوي عن مفاهيم ترتبط بالأساس بالعدالة الانتقالية، كالعفو والصفح والمصالحة وجبر الضرر.
أم أحد ضحايا الانتهاكات وهي تعانق الملك محمد السادس في القصر الملكي بالرباط في ديسمبر 2005
مقاربة مغربية: نهج تشاركي مجتمعي لمعالجة قضايا حقوق الإنسان
لا تكمن أهمية تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في إجلاء الحقيقة والتعويض وجبر الأضرار فقط، بل تكمن أهميتها أيضًا في وضع ضمانات عدم التكرار. حيث تم في عقد أول ترسيخ لتوصيات الهيئة في نص الدستور وتطوير آليات الحكامة الأمنية ووضع أسس إصلاحات جوهرية. ليشهد العقد الثاني دينامية أكبر في مسارات الإعمال، انتقلنا معها إلى ترسيخ فلسفة وآليات تقعيد الوقاية من الانتهاكات والمس بحقوق الإنسان، ضمن مقاربة ثلاثية شاملة تجمع بين الوقاية من الانتهاكات، وحماية الضحايا، والنهوض بثقافة حقوق الإنسان.
حقوق الإنسان بالمغرب: قصص نجاح
لن يسمح حيز هذا المقال بالتطرق إلى كافة اللحظات الاستثنائية وكامل الزخم الذي خلقته التراكمات الحقوقية المتتالية، طيلة ربع قرن من الزمن، لكنني سأقتصر على ثلاث محطات رئيسية لا تنسى، تساعد على رسم نبذة تقربنا أكثر من مسار فعلية حقوق الإنسان على مدى 25 سنة.
1. ميثاق وطني للحقوق والحريات
كانت مراجعة الدستور المغربي سنة 2011 واحدة من أبرز محطات الإصلاح التي شهدها المغرب، حيث جعل من حقوق الإنسان والحريات، كما هو منصوص عليه في الاتفاقيات الدولية المصادق عليها، حقيقة دستورية. استفتي المغاربة ضمن متن الدستور الجديد واختاروا أن يكون لهم ميثاق وطني صريح يكفل الحقوق والحريات الكونية، في أكثر من 80 مقتضى، من فصول صريحة وأخرى ضمنية، تسمو بهذه المثل العليا وتجعلها في قلب حركية المجتمع والمؤسسات.
2. ملامح منظومة وطنية لحماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية
خلال الربع الأخير من السنوات ال 25 الأخيرة، برزت معالم منظومة وطنية لحماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، تجلت بالأساس في إطلاق برنامج للدعم المباشر للأسر وتعزيز الولوج إلى الحق في السكن، فضلاً عن الإصلاح الضريبي الذي قد يشكل إنصافاً جبائياً ومصدراً مهماً لتمويل الأوراش المرتبطة بتعزيز الولوج إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
3. كوفيد 19 وزلزال الأطلس
خلال الأزمة الصحية كوفيد 19، استطاع المغرب بفضل استراتيجيته وتضامن المغاربة الخروج من الأزمة تدريجيًا. برزت رؤية جديدة للدولة، تتحمل فيها أدوارًا جديدة كدولة راعية أو اجتماعية. هذا النهج الحمائي تجلى أيضًا في تدبير الدولة لأزمة زلزال الأطلس المفجعة، حيث فتح الزلزال أعيننا على حجم الهشاشة، لكنه كان أيضًا فرصة لتسريع أوراش التنمية وتدارك التفاوتات المجالية.
أعتبر، من موقعي كمدافعة عن حقوق الإنسان ورئيسة مؤسسة وطنية، أن قرار جلالة الملك بالتكفل الفوري بالأطفال اليتامى وإحصائهم ومنحهم صفة مكفولي الأمة كان من أبرز لحظات ومحطات المسار، لحماية الفئات الأكثر هشاشة خلال الأزمات.
وأنا أعيد شريط هذه اللحظات الحبلى بالدلالات والقرارات والإجراءات الاستراتيجية التي تمت خلال عقدين ونيف من الزمن، أتذكر معها تحديات وأولويات أخرى لا نتردد في الدعوة إلى ضرورة وضعها في صلب سياسات عمومية لترسيخ هياكل دولة مدافعة عن حقوق ومصالح المغربيات والمغاربة، لحماية الحريات الأساسية في مغرب القرن 21.
* أمينة بوعياش | رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان