: آخر تحديث

"الدستور الأخلاقي" تحت الحصار

38
27
34

يعيش معظمنا وفق منظومة من القيم والمبادئ، وهي أشبه بـ"دستور أخلاقي" يُسطّر لنا أهدافنا وسلوكياتنا وطرق تعاملنا مع الآخرين، كما أنه يعطي معنى وغاية لحياتنا، ويساعدنا على اتخاذ قرارات جيدة، وإحداث تغييرات إيجابية؛ سواء في علاقتنا بزملاء العمل، أو مع أفراد الأسرة، أو حتى في طريقة تعاملنا مع الطرقات والممرات المزدحمة، وكذلك يحثّنا على احترام الآخرين على وجه الخصوص.

هذا الأمر يبدو أساسياً وبديهياً، فالعيش في كنف الاحترام واجب، والتحلي بالأخلاق الحميدة أساس العلاقات الجيدة والمجتمعات الخالية من الصراع والتناحر. لكن من المؤسف أنَّ "بوصلة الأخلاق" التي تسند عليها هوياتنا وحياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية وتاريخنا البشري، وقعت اليوم تحت حصار مجتمعات رقمية أقل "تأدبا ودماثةٍ"، بل مشحونة بالحقد والبغض والحسد والتطرف، وأقلّ تمسكاً بالقيم والأخلاق الحسنة.

كثيرون يعتقدون أنَّ لهم الحق في التعبير عن رأيهم بالطريقة التي يختارونها، والظهور بالمظهر الذي يريدونه، ووفقاً لهذه النظرية، يرى أنصارها أن التعرّي واللغة التي تفتقر إلى الدماثة والكياسة والتهذيب، ليست سوى حرية شخصية.

وكلما كانت أجسادهم مكشوفة و"خلايقهم" منفوخة، ونقاشاتهم عدوانية، أو بعيدة كل البعد عن الحياء والتهذيب، ازدادت شعبيتهم لدى الجماهير، وجنوا قدراً أكبر من المال.

المعضلة الأخلاقية، الأكثر شيوعاً في المجتمعات الرقمية، هو أنَّ التخلي عن القيم والأخلاق الحسنة، بالنسبة إلى الكثيرين، قد أصبح مصدراً "قيماً" لجني الأموال من مواقع التواصل، ولا أقصد هنا عامة الناس فحسب، بل حتى أولئك الذين يصنفون أنفسهم على أنهم من النخبة، انساقوا وراء لغة البذاءة والعنف والمظاهر الكذابة، فالحافز المادي المغري، بات الدافع الأساسي من أجله يتخلى الكثيرون عن ثوابتهم وقيمهم، أمَّا مسألة "ترك بصمة" أو "إحداث تغيير في المجتمع"، فيبدو أنها مجرد عبارات رنانة زائفة.

إقرأ أيضاً: ثروات "سبام" ولا في الأحلام

للأسف، تداول العبارات النابية بات من الأمور الاعتيادية، إن لم نقل من ضمن الثقافات الهابطة المرحب بها، وقد ينظر إليها في مجتمعات عدَّة على أنَّها سلوكيات مستساغة، وقد يُبجل أصحابها ويُرفعون درجات، ويكافؤون بملايين الدولارات في مواقع التواصل ووسائل الإعلام!

يكفي أن نلقي نظرة عامة عن فيديوهات مشاهير مواقع التواصل، ونحصي عدد كلمات السب والشتم والقذف وما إلى ذلك من الألفاظ النابية، لندرك حجم الانهيار الذي أصاب المعايير الأخلاقية والإنسانية في المجتمعات.

إقرأ أيضاً: تونس تحتاج سياسِيين لا عبثيين!

من المؤسف أنَّ معظم وسائل الإعلام، لم تعد اليوم تهتم بقيم الأخبار بقدر ما تبحث عن الإشاعات المغرضة والمواضيع المثيرة، وتفرد مساحات شاسعة لبذاءات مشاهير مواقع التواصل، ليبثوا سمومهم في عقول الأطفال والشباب والأجيال، لذلك لم يعد مستغرباً أن تتحول الألفاظ النابية إلى لغة تخاطب يومية بين الكبير والصغير، ووصل الأمر إلى حد أن يتبادلها الآباء والأبناء في ما بينهم.

لكنَّ الدرس الذي يتعين علينا استخلاصه من كل ما سبق هو أنَّ الأخلاق الحميدة لا تزال "تشتري كل شيء ولا تُكلف شيئاً".

صدق الامام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حينما قال "إنَّ كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الأخلاق ومحامد الأفعال".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف