كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يؤكد باستمرار أنَّ الإنسان محكوم بالحرية. فهو لا يملك الحق في ألّا يكون حرّاً. إن شبح سلفه جان جاك روسو يحوم فوق هذه الكلمات ويوحي لسارتر بالقول: ينبغي إرغام الإنسان على أن يكون حرّاً. الإنسان حرّ في كلّ شيء إلّا حينما تتعلق المسألة بالاختيار بين الحرية والعبودية، فهو مرغم على أن يكون حرّاً ولا يجوز أن يكون خلاف ذلك. لقد وجد الإنسان كي يكون حرّاً، والحرّية تمثل ماهية وجوده.
ورغم أنَّ العبودية تنتمي في نشأتها إلى عهود غابرة من تاريخ الحضارة البشرية، وهنالك اعتقاد سائد بأن البشرية تخلّصت منها، إلا أنها لا تزال حيّة في سلوك الأفراد وفي مظاهر تفكيرهم في عصرنا الراهن، وهي تتنوع وتتجلى في عبودية الأشياء (الصنمية) والأفكار(الوثنية الأيديولوجية) والأشخاص (التبعية). إنَّ أحط وأتفه صنف من أصناف العبيد في زمننا هم العبيد المتأنقين، الذين ينهمكون في لعق حذاء سيّدهم دون حرج، وفي الوقت نفسه يتسلّطون بذات اللسان على أمثالهم من العبيد الأقلّ شأناً. هؤلاء الذوي الياقات النظيفة ينسبون لأنفسهم شأناً زائفاً يكتسبونه من دورهم المزدوج هذا، الأكثر انحطاطاً في حياة العبودية. نحن محاصرون من هؤلاء سدنة العبودية وزبانيتها في هذا العصر.
التملّق والنفاق هو مذهب العبيد وعقيدتهم. كل متملّق عبد وجبان، وكلّ جبان مراوغ وكاذب. والمجتمعات التي يسودها التكلّف في العلاقات والنفاق والتزلّف هي الأضعف بين المجتمعات البشرية، الأكثر هروباً من حريتها، الأكثر قبولاً لدونيتها، الأشدّ قبولاً للنزعة القطيعية لتأكيد ذاتها. التملّق والمداهنة والمراءة تعدّ سرير الاستبداد الوثير، وهي تنتعش وتسود العلاقات في المجتمعات المنافقة والفاسدة، أكثر من غيرها، والمستبد يجد ضالته في المنافقين من حوله ويعزز من طغيانه وصلفه وغروره من خلال جمهرة عبيده المتزلفين حوله.
الخوف هو أبو أخلاق العبيد، كما كان الكواكبي يقول، والمداهنة والنفاق أمها، واللؤم شقيقها والخديعة شقيقتها. والعبيد لا يعرفون قيمة ولا يدركون معنى الاحترام لأمثالهم، لأنهم في الأصل لا يعون معنى المساواة والندّية بين البشر، بيد أنهم يجيدون الخنوع لسادتهم (جلاديهم) خوفاً. هذه المعادلة بسيطة للغاية، ويمكن اكتشاف مظاهرها بوضوح شديد في المجتمعات الأشدّ تخلفاً. فالعبيد كلّما أمعنوا في الخنوع وفي تبجيل سادتهم ازدادوا صلافة وإذلالاً بحق من هم حولهم.
إقرأ أيضاً: منطق الاستعراض في الردّ الإيراني
تقيم المجتمعات، التي تسود فيها ثقافة الغوغاء والعبيد، كرنفالات لتأليه قادتها وتقديسهم، وتلك هي طقوس العبودية المثلى للتعبير عن الخنوع والطاعة، وهذا دليل إفلاس أخلاقي واجتماعي وبرهان على غياب الإرادة والوعي بالمصير. إنَّ من أسوأ العقائد المضادة لفكرة الحرية، إحدى أعظم ابتهالات العبودية وتلاواتها، التي تكرّس وعياً منحرفاً بالولاء والانتماء، هو الاعتقاد بأن شعب ما يدفع بالمئات، بل الآلاف من أبنائه وبناته قرابين لحرية زعيم أو قائد مخلّص. ويُبرر ذلك بالقول إنَّ حرية الشعب هي رهن بحرّية هذا القائد المخلّص - المنقذ، إذ من دون حريته تستحيل حرية الشعب أو الأمة! هذه تعدّ واحدة من أسوأ الخرافات الأيديولوجية للعبودية في عصرنا الراهن، وكانت سائدة بالفعل بين عبيد روما اليائسين، الذين كانوا ينتظرون خلاصهم على يد المسيح المنتظر. الشعوب الحيّة في زماننا هذا تتفانى فقط لأجل مساواتها مع الشعوب الأخرى، لأجل حريتها وتقدمها، وليس لأيّ سبب آخر. وأيّ شعب ما لم يتوحّد حول هذا الهدف الرئيس، لن يعدّ جماعة قومية أو شعباً لديه وعيّ مشترك بالمصير وإرادة، إنما مجرد جمهرة قلقة أو قطيع بشري. فإذا ما اختار مجتمع ما أو شعب لنفسه مصير قطيع من النعاج الضالة، فلا يحقّ لأحد لوم الذئاب. ينسب لابن خلدون قول مفاده: لو خيّرت بين زوال الطغاة وزوال العبيد لاخترت دون تردد زوال العبيد، لأن العبيد هم من يصنعون الطغاة ويرفعونه فوق رؤوسهم.
والخلاصة حريتي ليست مرتبطة بحرية أيّ قائد أو زعيم؛ حريتي مرهونة بحرية شعبي وروح المقاومة لديه ضد القهر والعبودية، وما عدا ذلك تكريس للعبودية الفردية. إنَّ تحرير الأرض والإنسان لديّ أهم بمليون مرّة من حرية أيّ زعيم أو قائد مخلّص، عدا ذلك مجرد فنتازيا أيديولوجية.
إقرأ أيضاً: تأملات في العقل القوموي التركي
الفلسفة فقهٌ في الحرية، لا يعيها ولا يقدم على تعلمها إلا السادة الأحرار والنبلاء من البشر. إنَّ العبيد والمتزلفين ينفرون منها ويشمئزون. الفلسفة لا تحيا إلا بالعقول الحرّة والشجاعة، أما الشعوب التي لا فلسفة لديها أو لا تهتم بتعلّم الفلسفة وانتشارها، فهي تلك التي تسودها ثقافة العبودية والخنوع والاستسلام. والأمم، التي يفتقر تاريخها إلى الفلسفة والفلاسفة، إنما تشكو من سطوة المشعوذين والجهلة واللصوص وقطاع الطرق. الفلسفة علم وعي الحاجة إلى الحرية، والأمم التي لا تستشعر حاجتها إلى الفلاسفة والفلسفة أمم غير جديرة بالحرية والاستقلال.
ختاماً، لست بصدد التبشير بديانة الحرية، فلا يمكن أقنمة مفهوم الحرية أو جعلها وثناً، صامتاً وثابتاً، فالحرّية تندّ عن كلّ ذلك، كما لا يجوز تقييد العقل أو الوعي إلى فكرة تتخطى ذاتها باستمرار، ولا تعرف ثباتاً. الحرية ليست عقيدة منجزة، إنها تعاش وتعني الحياة في إبداع دائم، ولا يمكن استنفاد دلالاتها ومعانيها. لهذا أستعير هنا عبارة ف. هيغل التي تعبّر عن هويتي بالقول: لستُ السيّد، لستُ العبد، أنا الحرية التي أعيشها.