الواضح أنّ طوفان الأقصى الذي أطلقه يحيى السنوار في 7 تشرين الأول 2023 ترتّب عليه شنّ العدو الإسرائيلي حرباً لا هوادة فيها في أيلول الماضي على "حزب الله" تسبّبت بانهيارات عسكرية للحزب - الذراع العسكري لإيران- الأمر الذي ساهم بإجماع المراقبين على زعزعة ثقله العسكري والسياسي في بلاد الأرز، وبالتالي زوال وصاية طهران... واستتباعاً إلى زوال حكم الأسد (لأسبابٍ خارجيّة ومحليّة) بعد انتفاضة بدأت خافتة قبل 13 عاماً! الثابت أن غباء بشار الأسد وافتقاره إلى الحد الأدنى من الذكاء السياسي كان من العوامل المُهمّة التي اسفرت إلى زوال حكمه. وللتذكير، فثورة سوريا بدأت في درعا عام 2011 حين سجن محافظ درعا (ابن خالة الأسد) مجموعة من الأطفال كتبوا شعارات على جدران بعض الشوارع فانتفَضَ الأهالي طالبين بإطلاق سراحهم، لكن المحافظ لم يتجاوب. ولو احتضن الاسد الأطفال انفسهم وأقال يومها المحافظ، وأقدم على تنفيذ بعض الإصلاحات ولو شكليَّة ثم أجرى انتخابات رئاسية لفاز بأغلبية الأصوات! في السياق نفسه لو أقدم الأسد كما طالبت تركيا ومجموعة من الدول العربية من انفتاح سياسي للأسد منذ خمس سنوات لتجنَّب السقوط. لكن لا عجب! ففي الكتاب الأخير للنائب السابق باسم السبع "لبنان في ظل جهنّم من اتفاق الطائف إلى اغتيال الحريري" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 2024). يذكر السبع أن الرئيس الراحل رفيق الحريري قال له بعد اللقاء الأول الذي جمعه مع الأسد: "كنت خائفا على لبنان... والآن صرت خائفا على لبنان وسوريا!". التطوّرات الأخيرة في سوريا، والحراك الشعبي الكبير، إضافةً إلى قرب الاستحقاق الرئاسي ... عاملان حفّزاني على إيراد بعض الملاحظات: (i) التاريخ السياسي الحديث لبلاد الأرز يُسجِّل أنّ لبنان منذ استقلاله عام 1943 (في ضوء المآسي المتكرّرة والمُوجعة التي شهدها ويشهدها، فالناس تترحّم مع الأسف... على زمن الانتداب الفرنسي!) كان أسير العامل الخارجي وخاصة الإقليمي. فالمعادلة كانت كالتالي: إذا استقر الإقليم... استقرّ الداخل اللبناني: (الناصرية في الخمسينات، المقاومة الفلسطينية في اواخر الستينات إلى اوائل الثمانينات، اسرائيل بداية 1975، ثم الوصاية السورية بعد ذلك، واخيراً وصاية طهران منذ عام 2006). اليوم بعد زعزعة الثِّقل العسكري والسياسي لـ "حزب الله" وزوال حكم الأسد البعثي بالإمكان القول أن العامل الخارجي (external factor) تلاشى، ولم يعد له تأثير يُذكَر. تحرَّر لبنان من الوصايتين السورية والإيرانية... فماذا يمنع اللبنانيّين نتيجة الأوضاع المتردِّية على كافة الصُّعد دون استثناء إضافةً إلى تفشّي الطائفية والمذهبية والفساد والمصالح الشخصيّة والتحكُّم برقاب العباد وقهر الناس وسرقة ودائعهم وغياب الحوكمة ومحاسبة الفاسدين والسارقين... ما الذي يمنع الحراك في بلدٍ عُرِفَ -مقارنةً بكل الدول العربيّة دون استثناء- بالحركيّة السياسيّة، بحريّة الرأي، بتعدُّد الأحزاب والحد الأدنى من متطلّبات الديموقراطيّة؟ (خاصّةً بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 والتي أجهضتها طهران بواسطة "حزب الله" وذلك بعد اجهاض حِراك مماثل في العراق خوفاً من أي تغيير لا يصبّ في مصلحة طهران). وللتذكير فالربيع العربي لم يبدأ بتونس 2011، بل في لبنان عام 1952، حين اندفع اللبنانيون ونجحو بإسقاط رئيس الجمهورية آنذاك الشيخ بشارة الخوري .لا يمكن إغفال العامل الدولي في اسقاط الشيخ بشارة ذلك أن بريطانيا لم ترحب ببقائه في السلطة بعد رفضه الانضمام إلى حلفٍ إقليمي معها. (ميشال الخوري، "خطأه التمديد وكان ضعيفاً حيال الحاشية والسلطان سليم" ندوة أقامتها جامعة البلمند ، "النهار" 21-11-2003). في عودة إلى الحركيّة السياسيّة التي عرفها لبنان يجدُر التّذكير بأنّ الدستور اللبناني قبل اتفاق الطائف وبعده نصّ على حريّة المُعتقَد والرأي. وعلى سيرة اتفاق الطائف فكنّا بغنى عن ذلك الاتفاق الذي دفع اللبنانيون ثمناً باهظاً للوصول اليه (من آلاف القتلى والجرحى إضافة إلى الخسائر الجسيمة على كافة المستويات). المشكلة في النفوس وليست في النصوص! فالراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب ندّى الله تربته وطيّب ثراه في ضوء نهجه السياسيّ الصّائب جعلني أتمسّك بلبنان الوطن ولبنان الدولة في زمن كان الشعار السائد آنذاك لا بل الطاغي: "أمّة عربيّة واحدة من المحيط إلى الخليج". ولعلّه من المفيد إيراد لا بل استذكار بعض المحطّات وليس كلّها: (i) لبنان البلد العربي الوحيد الذي منذ الاستقلال شهد انتخابات نيابية نزيهة إلى حدٍّ ما ولو اعتراها بعض التدخُّل من السلطة التي كانت قائمة. (ii) انتخاب رئيس للجمهورية عام 1970 بفارق صوت واحد. يومها وصف الراحل الكبير غسان تويني هذا الصوت بديكتاتورية الصوت الواحد. (iii) الحرص -على عكس ما يجري الآن- على استحقاق الانتخابات الرئاسية في موعدها. والأمثلة على ذلك لا تُعدّ ولا تُحصى لكنّني أكتفي بما سبق منعاً للأطالة وأعيد طرح السؤال الجوهري: لماذا لا يثور اللبنانيون؟ لماذا لا ينتفضون؟! يذكر غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" أن الفرد يتحرّك بوعيه الذاتي في حين أن الجماهير تتحرك بدافع "اللاوعي الجماعي" ذلك أن الجمهور يتحرّك بصورة لا واعية، فالوعي فردي فيما اللاوعي جماعي. لكن ألا تكفي الأوضاع السياسية المُزريَة، البالية، المُهترئة، وفقدان الأمل وسيطرة اليأس والبُؤس على الناس إضافة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، المالية، النقدية والكارثيّة – خاصة بعد الخسائر الهائلة التي نتجت عن العدوان الإسرائيلي بسبب ما سُمّي بحرب الإسناد والتي بدلاً من أن تسند غزّة كما قيل... قسمت بتداعياتها ظهر كل اللبنانيين- لتحريك وإثارة اللاوعي الجماعي؟ دراسات السياسية تشير إلى أن الثورات والانتفاضات الجذرية للشعوب تبرز وتطفو على السطح عند اجتماع ثلاثة عوامل في وقت متزامن: (i) ازمة اقتصادية - مالية خانقة وهذا ما نعاني منه في لبنان، (ii) حصول انقسام داخل المنظومة الحاكمة فيما يتعلق بكيفية التصدي للأزمات وهذا مع الأسف لم يحصل، بل حصل العكس. (iii) تماسك قوى التغيير وقدرتها على الحشد وحثّ الجماهير على التظاهر وهذا ما نفتقده لحينه مع الأسف! في عودة إلى الاستحقاق الرئاسي، سيُسجّل التاريخ السياسي اللبناني 9 كانون الثاني 2025 وكأن ذلك التاريخ هو سِدرة المنتهى ، فبعد عذاب يزيد عن العامين وزوال وصاية طهران تحدّد موعد الانتخاب للجمهورية. سقى الله زمناً كان الاستحقاق الرئاسي -بالرغم من كل الظروف- يتم احترامه. الناس تصبو -بعد زوال الوصايتين السورية والإيرانية- إلى رئيسٍ جديد يكون على مستوى الطموحات اللبنانيين الشرفاء. على العهد الجديد العمل على بسط سيادة الدولة على كافة الأراضي اللبنانية وهذا القرار ينص عليه صراحة القرار 1701 والذي يتضمّن بكل صراحة وضوح القرار 1559 ويا حبّذا لو أيقن "حزب الله" ان عدم اشارة البيان الوزاري لأولى حكومات العهد الحديد إلى معزوفة جيش/شعب/مقاومة/ لا يُعدّ انتقاصاً من دوره بعد الخسائر الجسيمة التي لحقت به... بل تفهُّماً للمعطيات المحلّيّة، الإقليمية والدولية المُستجدّة. لا يكفي أن يعمل الرئيس الجديد والحكومة الأولى للعهد بتطبيق الإصلاحات التي يطالب بها الجميع، بل من المُتوجّب أيضاً عليه أن يطبّق مبدأ المحاسبة كتكليف شركة مُتخصّصة بتدقيق حسابات -على سبيل المثال لا الحصر- المصرف المركزي ووزارات الطاقة، الاتصالات، الداخلية وغيرها. اكاد أجزم أنه لا يوجد في العالم حاكم مصرف مركزي اعتبر المصرف... كمصرفه الخاص كما فعل رياض سلامة ! أما عن الكهرباء فحدِّث ولا حرج!! فلا أعثر على بلدٍ صرف ما يقارب الاربعين مليار دولار على مشاريع الكهرباء لا يزال يعاني لحينه من انقطاعها! من الأولويات أيضاً: اقرار قانون انتخاب جديد يُلغي القانون المسخ الحالي الذي كرّس الطائفيّة والمذهبيّة... قانون يُجمع ويوحّد وفي السياق نفسه لا مهرب من اعتماد ال "megacenter" كي يخفف من الضغوطات على الناخب فيجري التصويت بعيداً عن المحافظة التي ينتمي اليها. عند كل استحقاق رئاسي اترحّم على الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب، فهل من يتشبّه به!؟ ميشال عون وعدنا بجهنم وصَدَق وعده! فيا حبّذا لو أن الرئيس الجديد لا يعدنا فقط بالجنّة بل يعمل بالفعل، كي ينعم لبنان بخيراتها! كما فعل الرئيس شهاب!! يقول-خصمه السياسي- الوزير الراحل كاظم الخليل "كان كل مدّة ولايته في قيادة الجيش ورئاسة البلاد نظيف الكف لم تغرّه المادة ولم يجمع منها غير ما هو بحاجة إليه. عاش فقيراً وعزيز النفس موفور الكرامة ومات كذلك. ويضيف "تسلم الحكم وفي رأسه هدفان رئيسيان: إعادة الإمارة الشهابية (؟!) وإصلاح أجهزة الدولة ومحاربة الفساد والحد من نفوذ النواب والزعماء الممتد الى كل دوائر الدولة" (مذكرات كاظم الخليل، "النهار" 30/4/1990). حبّذا، لو ينعم لبنان.. بفؤاد شهاب آخر... نحن الذين نفتقد وطنيّته، حكمته، سداد رأيه، صواب رؤيته، رِفعة خُلقه ونظافة كفّه!
الانتخابات الرئاسية: هل نَحظى بفؤاد شهاب آخر...؟!
مواضيع ذات صلة