أصغينا وبحب كبير إلى حديث الإعلامي فيصل القاسم، صاحب أشهر برنامج تلفزيوني يُذاع عبر قناة الجزيرة، الذي لامس في حواره الأخير ـ بودكاست ضيف شعيب ـ الصراحة، وصدق البوح في كل كلمة نطق بها، وهو الذي سبق له أن عاش حياة مريرة وفقراً أسود، وكان لكلماته عبق ورائحة طيبة، لا سيَّما أنها لامست وجدان وضمير كل عربي، لفت إليه الأنظار.
فيصل القاسم أكثر ما يكره الضجيج، ويبحث بصورة دائمة عن الهدوء، والاستماع إلى الأغنية الكلاسيكية، والبحث في كل زاوية عن الراحة والجدية في اختياراته، ويؤكد أنه أشبه ببابلو إميليو إسكوبار أكبر تاجر مخدرات وسياسي كولومبي، مؤسس وقائد منظمة كارتل ميديلين الإجرامية، لكنه لم يتناول حبّة مخدرات واحدة في حياته. أي أنَّ القاسم يعود إلى نفس المجموعة التي ينتمي إليها ذلك التاجر الكبير، فهو إنسان بسيط ومتواضع، ويقرأه العالم الذي يتابع برنامجه الأشهر "الاتجاه المعاكس" على عكس ما يَظهر به من عصبية ونرفزة، لا سيما أنَّ طبيعة البرنامج، وكما يؤكد القاسم، تُظهر الطابع العَصبي من قبل ضيفيّ البرنامج.
والإعلام، وكما يُعرّفه القاسم بالنسبة إلى العرب، "احفظ وأخرس!"، أما بالنسبة إلى الإعلام في إنجلترا فهو "خذ واعطِ"، وفي الولايات المتحدة الأميركية، فإن الكلمة والصوت والحركة لها مقاييسها ودورها. فالحركة تأتي في مقدمة ذلك، ويليها من ثم الصوت فالكلمة.
والقاسم، يشير إلى أنه قادر على إعداد وتقديم الكثير من البرامج الأكاديمية ذات الطابع الهادف، ولكن من يشاهد أمثال هذه البرامج؟ ما هو مطلوب في الوقت الحالي، هو برامج تأخذك بعيداً، والمشاهد لا يرى نفسه إلا في البرامج الغوغائية الصاخبة، وصراع الديكة، وهو المطلوب!
وفي إشارة إلى الصحافة، فإنه يؤكد أن من الخطأ بمكان معاداة أي صحافي أو إعلامي أياً يكن، وإن كان صغيراً في مقامه ومكانته!
فمع بداياته كان ضد السلطة والقهر الاجتماعي، وهو عانى كثيراً أبشع أنواع الظلم، وسعى جاهداً كطالب في الدفاع عن واقع قاس طالما يُعاني منه.
وكانت دراسته تلقي الضوء على كل ما سبق أن عاناه، وهو في سنّ اليفاع والواقع المزري، والفقر المدقع الذي كان يُلازمه ومنذ الصغر، وكان يساعد أهله في الحصاد والدراسة والرجيدة، التي كانت وما تزال الطريقة الوحيدة لنقل المحاصيل الزراعية من الأرض إلى البيدر، وكل ما يتعلق بالزراعة.. فضلاً عن عشقه الدائم الاستماع إلى الإذاعة والتلفزيون الذي عرفه فيما بعد.
عاش القاسم سنوات طويلة حياة قاسية، وكان مهتماً بمدى علاقة المثقف بالسلطة، وكيف حطّم الكتّاب البريطانيون المقدسات، وتمكّن بالرغم من كل الظروف القاسية، من أن يُحقق مشروعه الثقافي بنيل شهادة الدراسة الثانوية بتفوق، ونال المركز الأول وعن جدارة على طلاب مسقط رأسه في مدينته السويداء، وانتقل إلى الدراسة في جامعة دمشق في كلية الآداب ـ قسم اللغة الإنكليزية ـ وتميّز بها، وأصبح الأول على طلابها، وكان حلم السفر يطارده في كل مكان رغبة منه في الدراسة خارج القطر لنيل شهادة الدكتوراه والعودة أستاذاً جامعياً ليدرّس طلاب الجامعة التي تخرّج منها بامتياز. وبعد تخرجه عين مباشرة أستاذاً في الجامعة، ودرّس اللغة الإنكليزية في كلية طبّ الأسنان لسنة واحدة، وبعدها أُوفِد إلى بريطانيا، وأثناء دراسته الجامعية في دمشق كان برفقته صديق عزيز اسمه فيصل عبّاس من الساحل السوري، وكان صديقاً طيباً وكريماً، وكان يُنفق عليه في بعض الأحيان. وفي يوم سأل صديقه في السنة الرابعة عن كلمة طالما يسمعها بالراديو كثيراً اسمها سياسة، ولم يكن يعرف معناها.
شرح له معنى السياسة، ولم يَفهم شيئاً… وأغلب الطلاب الذين كانوا معه كانوا يتحدثون عن لينين، وشي غيفارا وماركس، وبالنسبة له كان مثل الأطرش في الزفّة.
إقرأ أيضاً: ضخَّ الملايين في دوري روشن
وفي إنكلترا اختار دراسة المسرح الإنكليزي في القرن العشرين، ما دام أنَّ الدولة المبتعث منها موافقة على هذا الاختصاص، ولا يوجد هناك ما يمنع من إكمال الدراسة في هذا الطريق. وبعد أسبوعين من وصوله إلى الحلم الإنكليزي قابل المشرف البروفسور ديفيد كيث بي كوك في جامعة هال الإنجليزية بمقاطعة إيست رايدينج، وما زال على تواصل معه. فقال له المدرس المشرف ما هو رأيك في أن تدرس التأثير الماركسي على المسرحيين البريطانيين المعاصرين؟ رفض في البداية الخضوع لهذه الدراسة ما دام اسم ماركس موجوداً فيها، وفي سوريا هذه الكلمة غير مرغوب بها. وأعطاه الدكتور المشرف على دراسته مجموعة من الكتب وبعد قراءتها، اختار هذا الاختصاص الذي أشار إليه البروفسور، وقال في نفسه هذه هي الكتب التي أبحث عنها. كلها ماركسية. فقال هذه هي الماركسية؟ إنها تشتمل على صراع الطبقات، التميز الطبقي، الطبقة المسحوقة، البروليتاريا، الطبقة العاملة، المستغِلين وطبقات الفقراء والأغنياء، ودراسة رأس المال، ومن الذي يتحكّم بالمجتمعات. بعد أسبوعين غرق في هذا العالم، وأمضى دراسته في هذا الإطار، وهذا الذي أحبّه والذي يعبّر عن استغلال الشعوب، وهو ابن عائلة فقيرة ومسحوقة مثل كثير من الملايين من الناس، وهكذا كان توجهه.
أكمل دراسته العليا بشغف وحب كبيرين في إنكلترا، فدرس الماجستير خلال أربعة أشهر، وبعدها انتقل مباشرة لإكمال دراسة الدكتوراه، وكان يشرف عليه أستاذ كبير رأى فيه ما كان يُحس به منذ الصغر.
إقرأ أيضاً: ما مبرر صيام بن زيما عن التهديف؟!
فالقاسم كانت شهوته الأساسية هي النجاح في إكمال دراسته، وتلك المقتضيات كانت تعبّر عن الطبقة المسحوقة، وما سبق أن درسه، فهذا ما كان يبحث عنه في بطون أمهات الكتب المقررة التي حققت رغبة ذلك الطالب الكفؤ.
وفي إنكلترا تعرّف على زميل دراسة كثيراً ما اهتم به، وساعده على كثير من الأحوال وهو نضال قبلان، شخصية، كما يؤكد القاسم، مرحة وكريم الطبع، ولم يقصّر في تقديم المساعدة له، إلا أنّ وجهات النظر بينه وبين صديقه ابن بلده قبلان لم تتوافقا، ما دفع بالقاسم إلى أن يلتفت إلى دراسته والانكباب عليها، وخلال فترة استمرت عامين متواصلين أنهى القاسم دراسة الدكتوراه بتفوق، وعمل في هيئة الإذاعة البريطانية BBC، والتقى عمالقة من المذيعين العاملين في المحطة من أمثال: علي أسعد، حسن أبو العلا، سامي حداد، جميل عازر، نبيل إسكندر، أيوب صديق، عبلة الخمّاش، ماجد سرحان، سلوى الجرّاح، حُسام شبلاق، هاني العدوي، وآخرين…
إقرأ أيضاً: هل الوطن شبيه بالأم؟
وكان حلم القاسم في بداية مشواره أن يكون مذيع نشرة أخبار جوية، وهذا سقف طموحه، واستطاع تعلم اللغة العربية باللغة الإنكليزية، ولم يكن يعرف الفعل الماضي من المضاف إليه، واستطاع أن يتدرّج في عمله في الإذاعة البريطانية من عقد لمدة أسبوع إلى ثلاثة أسابيع، إلى ثلاثة أشهر، وختمها بعقد دائم لمدة أربع سنوات ونصف، وأعد برنامجاً ثقافياً باسم مستعار فيصل نور، وفي عام 1991 عمل في قناة Mbc، كما عمل كمعد مراسل لبرنامج رياضي، وفي عام 1994 عمل حلقة تجريبية تزامناً مع زواجه.
في عام 1996 أغلقت BBC الناطقة باللغة العربية، وبعدها انتقل إلى العمل في قناة الجزيرة، وما زال مستمراً فيها…