أتابع بألم شديد الحرب البربرية التي تشنها إسرائيل على غزة، والتي تتهدد فيها أبناء الضفة الغربية بالتشريد والتهجير. إنَّ كل ما يحدث، وسيحدث، يمثل عنصرية بربرية تفوق كل التوصيفات، وتنتهك القوانين الإنسانية الدولية، الأمر الذي شجع دولة جنوب أفريقيا على مقاضاة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، في تأكيد على إنسانية أولئك الذين عانوا من مثل هذه الانتهاكات لحقوقهم، وبما يُثبت بالدليل القاطع أن ما تقوم به إسرائيل، بالرغم من معاناة مواطنيها سابقاً، ما هو إلا انتقام بربري من الفلسطينيين، أصحاب الأرض، بعد أن فُضحت كذبة حولوها إلى أسطورة، ورموا عرض الحائط بنصائح كل الدول التي دعمتهم بالمال والسلاح على حساب دافعي الضرائب.
كنت في مطار تل أبيب يوم 28 أيلول (سبتمبر) حين ألغت شركة الطيران البريطانية رحلتي للعودة بعد زيارة أهلي وبلدي. الإلغاء أعطاني الفرصة للمرة الأولى لأن أقضي الليلة في تل أبيب، ما سمح لي أن أشاهد بعيني مظاهر التقدم الكبير وحياة الرخاء التي يعيشها الإسرائيلي. وقد أصابني هذا الأمر بغصة في الحلق بعد مقارنته بمظاهر البؤس والفقر في بلدي، وكل مظاهر الاستفزاز من قبل المستوطنين لأبناء بلدي في حواري القدس القديمة، مدججين بالسلاح، يحتلون بيوتنا القديمة. البعض قال لي إنَّ أصحاب هذه البيوت باعوها، والبعض الآخر يؤكد أنَّ المستوطنين طردوا أهلها منها واحتلوها بالقوة، لأنَّ الله وهبها لهم منذ الآف السنين!
إقرأ أيضاً: رهائن لدى الولي الفقيه
عدت إلى وطني الثاني، لأفاجأ، وبعد أسبوع واحد على الزيارة، بضربة حماس للمستوطنات المُحاذية لغزة. شرد ذهني، وأطلقت العنان لفكري في تحليل منطقي ولكن لا عقلاني، كتمته في صدري، وحكمت على عقلي بالشلل الفكري، في البحث الموضوعي لإيجاد حل لإنهاء هذه المعاناة التي فرضت نفسها على كل فلسطيني، سواء بالداخل أم في أرض الشتات... أتوقع تشريد أهلي وأبناء بلدي في كل لحظة، وأبحث عما أستطيع فعله لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه... كل ما يحدث وسيحدث ما هو إلا انعكاس مباشر للعقلية الانتقامية التي تسيطر على صنّاع القرار في إسرائيل، وتنتهك كل القوانين الإنسانية الدولية.
واليوم كانت بداية صحوتي بعد أن قرأت الخبر التالي: "بريطانيا تفرض عقوبات على 4 إسرائيليين على خلفية اعتداءات ضد فلسطينيين بالضفة الغربية".
مما لا شك فيه أن بريطانيا تعد من أوائل الدول التي تحمل مسؤولية أخلاقية وقانونية تجاه ما يعاني منه الفلسطينيون، بعد أن انتهكت القانون الدولي الذي يؤكد على التزامها بالعمل على تجهيز الشعب الفلسطيني للاستقلال بعد إنتهاء فترة الإنتداب. وخلال تلك الفترة، فتحت أبواب التوطين في فلسطين للقادمين اليهود من كل أوروبا، بغرض التخلص من عذاب الضمير جراء سوء معاملة اليهود في بريطانيا وفي باقي أرجاء أوروبا. وإذا صح أنَّ بريطانيا امتنعت عن التصويت على قرار التقسيم 181 في الأمم المتحدة، فإنَّ هذا الإمتناع لم يرقَ إلى درجة منع إسرائيل من التوسع بأكثر مما منحت لها الأمم المتحدة في ذلك القرار. لكن أوروبا كلها تحمل مسؤولية إنسانية تجاه ما يمر به الإنسان الفلسطيني في كل الأرض المحتلة، والمسؤولية الأخلاقية تُحتم علينا جميعاً، من منطلق أننا مواطنين ودافعي ضرائب، العمل على صحوة الضمير الأخلاقي لتصحيح مسار قضيتنا.
إقرأ أيضاً: بوتين في السعودية والإمارات... العالم يتبدّل
وعليه، أتمنى أن يكون الخبر المشار إليه أولى الخطوات نحو معاقبة كل بريطاني يشترك بأي شكل من الأشكال في هذه الحرب الوحشية، لأنها تؤكد بربرية كل من يُشارك فيها. واستناداً إلى كل تحليلات الطب النفسي، فإن عودة مثل هذا المشارك تُعتبر خطراً على الأمن البريطاني. من يضمن عدم قيام العائد، بعد أن عبأته الآلة العسكرية الإسرائيلية وابتهاجه بالدمار الذي خلفه، بأعمال مماثلة لما قام به خلال اشتراكه بهذه الحرب، الأمر الذي يهدد الأمن القومي؟
ما أتمناه في هذه الأوقات العصيبة أن يستعمل كل المواطنين من أصول فلسطينية وعربية كل الأوراق المتاحة للضغط على الحكومة البريطانية، سواء من خلال منظمات العمل المدني المساندة للحقوق الفلسطينية والتي أظهرت نيات صافية تجاه حق الإنسان الفلسطيني في أرضه وفي دولته، أو من خلال العمل على خلق لوبي مختلط من العاملين في منظمات العمل المدني البريطانيين، مع كل مواطن يحمل الجنسية البريطانية ومن أصول فلسطينيَّة، لحث النواب على حمل مطالب هذا اللوبي إلى الحكومة، بغية العمل على التوقف الكلي عن بيع وتصدير الأسلحة، خصوصاً في الحالات التي تؤكد وجود احتمالية استخدام هذه الأسلحة في ارتكاب انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، كما هي الحال في قتل المدنيين الفلسطينيين، حيث لم تتوقف الآلة العسكرية الإسرائيلية عن استعمال هذه الأسلحة، وبما يتعارض مع القانون الدولي.
كذلك، يجب فعل التالي:
حث الحكومة البريطانية على إعادة النظر في قوانينها الداخلية التي تسمح لمواطنيها بالاشتراك في أي حرب، والتي تستعملها الأقلية اليهودية للانخراط في جيش الاحتلال الإسرائيلي تحت مُبرر الدفاع عن إسرائيل.
إعطاء دافع الضرائب البريطاني الحرية في اختيار الدولة التي تتبرع لها الحكومة البريطانية، خصوصاً تلك الأموال التي تستعمل لتمويل حروب لا شأن للمواطن البريطاني فيها... نعم لاستمرار إغاثة الدول الفقيرة، ولكن بشرط عدم استعمال هذه الأموال في تسليح دول انتهكت القوانين الدولية.
الالتزام باحترام قوانين تصدير الأسلحة، والتي تنص على عدم منح أية تراخيص حال التشكيك بأن هذه الأسلحة قد تُستخدم في انتهاك القانون الدولي الإنساني. وعليه، فإن الحكومة البريطانية مُلزمة بتعليق مثل هذه التراخيص، خصوصاً لدول ترتكب جرائم حرب، كما أثبتت المحكمة الجنائية الدولية في مُقاضاة دولة جنوب أفريقيا إسرائيل.
إقرأ أيضاً: حماس.. ما لها وما عليها
وقف كل المساعدات العسكرية لدولة الاحتلال، وحثها على إنهاء هذا الاحتلال لضمان أمنها وضمان الأمن العالمي.
أن تظهر الحكومة البريطانية وجهها الإنساني عن طريق توجيه سفينة "آرجوس"، وهي سفينة تعمل بوصفها منشأة طبية عائمة وإغاثية في الحالات الطارئة، لمساعدة جرحى غزة.
سيدي القارىء قد تعتبر أنني ساذجة، لكنني أؤمن بعدم استحالة أي شيء... فالغضب الذي أظهرته الجماهير الأوروبية قادر، إن آجلآ أو عاجلآ، على تحريك القرار السياسي. وقوة وسرعة هذا الحراك تعتمد على رؤية واضحة للحل، وتضافر الجهود للضغط على كل الحكومات لإنهاء الاحتلال، وإستعادة الكرامة الإنسانية لكل الفلسطينيين.