إن فيلم "البائع-2016" لأصغر فرهادي، مركب يحفل بالتفاعلات الفنية والإحالة المسرحية (مسرحية "موت بائع متجول" لآرثر ميلر) والأدبية (قصة "البقرة" لغلام حسين ساعدي) والسينمائية (فيلم "البقرة "لداريوش مهرجوي) والتشخيص العميق لدواعي الاعتلال في المجتمع الإيراني المعاصر (ازدواجية المثقف وعقم إبدال المجاورة).
I- المسرح والدراما في فيلم "البائع"
يشتبك المسرح والدراما في فيلم "البائع-2016" للمخرج الإيراني أصغر فرهادي وينسجان قماشة درامية بمذاق تراجيدي. تقدم مسرحية "موت بائع متجول " لآرثر ميلر العالم الدلالي والرمزي، ويحكم الفيلم صوغ المعاني وإعادة ترتيب الرموز والإيحاءات والعلامات، ونقلها- بعد تكييفها وإغنائها وإخصابها بقوة المخيلة وعنفوان المعيش ومخاض التجربة- إلى فضاء ثقافي-حضاري مختلف.
ينتحر ويلي/عماد، احتجاجا على دونية اجتماعية لا يرتضيها وشقاء وجودي لا يقبله، ويقضي الشيخ المعتدي/ فريد سجادي حسيني نحبه، ضحية ازدواجية فكرية وسلوكية قاتلة.
1-المشاهد المسرحية في الفيلم:
تضمن الفيلم ثمانية مشاهد مسرحية.
المشهد المسرحي الأول:
تم تقديم فضاء مسرحية "موت بائع متجول" في هذا المشهد.
المشهد المسرحي الثاني:
يعرض هذا المشهد علاقة ويلي /شهاب حسيني بجارته في الفندق العاهرة سانام/ مينا ساداتي، واستعمالها حمامه الخاص، بعد طلاء حمامها الشخصي حسب زعمه.
المشهد المسرحي الثالث:
يعرض استعداد الفرقة للعرض المسرحي(التنظيف والتمرين وإعداد الركح ).
المشهد المسرحي الرابع:
يعرض هذا المشهد الحالة الشعورية لويلي/عماد، الغارق في الهامشية والدونية الاجتماعية، واليائس فيما يبدو من وعود الرفاهية والهناءة.
المشهد المسرحي الخامس:
خصص هذا المشهد لما دار في الكواليس من مناقشات حول علم أفراد الفرقة بطبيعة الحادث (إصابة رنا بجروح) وعرض معاناة رنا (عجزها عن التمثيل وإسناد دورها إلى ممثلة أخرى).
المشهد المسرحي السادس:
يكشف هذا المشهد عن توتر علاقات ويلي/عماد/ بجاره تشارلي /باباك ورفضه عرضه المهني.
المشهد المسرحي السابع:
يقدم نواح الزوجة ليندا/رنا بعد انتحار ويلي/عماد.
المشهد المسرحي الثامن:
يعرض استعدادات الفرقة لعرض جديد(وضع الماكياج والتأمل الصامت في الحادث وموت البائع/الزبون).
2-المسار الدرامي الخطي والمسار المسرحي الدائري:
إن مسار المسرح في الفيلم دائري، يبدأ بعرض الفضاء الركحي ويقدم الشخصيات وعالمها النفساني والاجتماعي(علاقة ويلي/عماد /شهاب حسيني بالعاهرة/فرانسيس) وتناقضاتها وتمزقاتها وتوتراتها وعلائقها التنازعية بالأغيار (رفض ويلي/شهاب حسيني عرض تشارلي/باباك كريمي )ويستعرض موت ويلي/عماد/شهاب حسيني وتأثير فقدانه على أسرته وينتهي بوضع الماكياج استعدادا لعرض جديد.
خلافا لمسار المسرحية، فإن المسار الدرامي للفيلم خطي، يتوزع بين ثلاث محطات رئيسية:
-عرض التمهيدات:
تم التوسع في تقديم العالم النفساني والاجتماعي لعماد ورنا(علاقة عماد الجيدة بتلاميذه /إقدامه على إخراج شاب معاق(حسين) من الشقة والعمارة المتصدعة بسبب أعمال الحفر /مشاركة أفراد الفرقة في نقل الأثاث إلى الشقة الجديدة/غناء عماد ورنا أثناء نقل الأثاث / مداعبة القطة )، وعلائقهما بأفراد الفرقة المسرحية. كما تم التوسع في عرض أعراض الاختلال (تصدع العمارة بسبب أشغال الحفر/خوف راكبة التاكسي من التحرش /أزمة السكن/رفض إدارة الثانوية الكتب المهداة إليها من قبل عماد /شهاب حسيني /انشغال التلاميذ باللهو لا بالتحصيل العلمي أو بالمتعة الفنية. . . ).
-واقعة الاعتداء:
لا يتم التعرف على واقعة الاعتداء إلا من خلال الروايات والاستعادات البعدية (رواية رنا والجيران ). إن هذه الروايات والاستعادات البعدية، تقريبية ونسبية، ولا تقدم إلا نتقا من الواقعة، تبعا لموقع كل شاهد. وكان على عماد بذل جهد نفساني وذهني كبير، لتجميع المعلومات (الإنصات إلى الجيران/النبش في أوراق وهاتف الساكنة السابقة في الشقة )، والآثار (الجوارب والمفاتيح والنقود والهاتف وسيارة النقل)، ومساعدة رنا على تخطي أعطاب الجسد والنفس والوجدان(رهاب الحمام).
-التحري والانتقام:
يتحرى عماد/شهاب حسيني، عن المعتدي، بعد رفض رنا/ ترانه عليدوستي إبلاغ الشرطة. ويتمكن من الوصول إليه بعد مطارة طويلة وشاقة ومتعبة نفسانيا وذهنيا، باستعمال ما يلي:
-آثار المعتدي (رقم سيارة النقل )؛
-وساطة ابن شرطي مرور متقاعد؛
-الحصول على رقم هاتف خطيب ابنة المعتدي، ماجد/مجتبى بيرزاده ؛
-إقناع ماجد/ مجتبى بيرزاده بنقل كتب ولوحات شخصية؛
- معاينة رجل البائع/الزبون ؛
-محاصرة البائع/الزبون/ فريد سجادي حسيني واستنطاقه وتعنيفه جسديا ونفسانيا.
تشتد الرغبة في معرفة الحقيقة الكاملة والتعرف على المعتدي، كلما، أرخت آثار الاعتداء بظلالها على حياة ونفسانية عماد/شهاب حسيني ورنا/ ترانه عليدوستي. يضطر عماد إلى مضاعفة الجهود وتوظيف مخلفات المعتدي للعثور عليه؛وسيتمكن بمساعدة ابن شرطي مرور متقاعد من معرفة هوية صاحب سيارة النقل، والوصول بعد استنطاق واحتجاز وتعنيف وتفحص أرجل البائع الليلي إلى المعتدي الحقيقي. وقد عزم على الانتقام منه، باستدعاء أسرته كلها، و إشهار أسراره أمامها. وقد جرت أطوار الاستنطاق والاحتجاز والتعنيف والتهديد، في المنزل المتصدع، في إشارة إلى أن التصدع مستحكم وآثاره بادية على البنايات وعلى المنظومات القيمية والسلوكية. وانتهى الاستنطاق بالموت الفيزيقي والرمزي للشيخ المريض في سلالم العمارة المتصدعة بحضور الزوجة المحبة العطوف والابنة البارة وخطيبها الخدوم.
3-دلالات التواشج بين المسرح والدراما في "البائع"
ثمة تواشج بين المشاهد المسرحية والمسارات والتفريعات الدرامية للفيلم.
تمكننا المشاهد المسرحية مما يلي:
-التعرف على الاختيارات الفنية والجمالية والفكرية للفرقة وأفرادها. ليس اختيار مسرحية ناقدة للمجتمع الأميركي وأوهام الحلم الأمريكي، اعتباطيا بكل تأكيد. فمن الطبيعي، أن يعقد المشاهد المقارنات، و أن يستحضر أوجه الاعتلال في الاجتماع الإيراني المعاصر(أزمة السكن والتحرش الجنسي وعدم ثقة الأفراد في القانون والازدواجية القيمية والسلوكية وعزلة المثقف –الفنان وغياب التضامنات الجماعية في الوسط الحضري ).
-معاينة نقاط التلاقي والتشابك بين العالم المشخص وواقع الشخصيات(عجز رنا/ عن الاستمرار في أداء دورها بعد تعرضها للاعتداء /توتر عماد/شهاب حسيني وإمعانه في إهانة باباك/باباك كريمي بدون ضرورة فنية /توقف سانام/ مينا ساداتي عن التشخيص احتجاجا على سخرية سيافاش / مهدي كوشكي.
-التعرف على معاناة الممثل، في سياق ثقافي –سياسي لا يحفل كثيرا بالجماليات النقدية (الرقابة/هشاشة الوضع الاجتماعي للممثل).
-التعرف على الإشارات والرموز والثيمات والشفرات المضمنة في المشاهد المسرحية ومقارنتها أو ربطها، بالمسارات الدرامية والدلالات والرموز المشابهة لها في السرد الدرامي (الجوارب والحمام والجثة وعلاقة ويلي /عماد بجارته/صديقته العاهرة).
4-مظاهر الترابط بين المسرح والدراما:
ثمة روابط متينة بين المشاهد المسرحية والسرد الدرامي، نجملها فيما يلي:
-التمهيد: خصص المشهد المسرحي الثاني، للكشف عن علاقة ويلي/عماد بفرانسيس/سانام جارته العاهرة. وهي علاقة لا تخلو من التواطؤ والالتباس، فقد سمح لها باستعمال حمامه الخاص بعد تعذر استعمال حمامها حسب زعمه ؛كما أنها لا تني تتذلل وتطلب منه إتحافها بالجوارب أمام بيف/سيافاش. وستوظف الجوانب المشار إليها في هذا المقطع المسرحي(العري المفترض والحمام والجوارب)، في تطوير السرد وتفريع الأحداث.
-رسم المسار العام: ترسم المشاهد المسرحية، المسار الإجمالي للأحداث الدرامية ولاسيما المشهد الثاني والرابع والسابع. إن المشهد الثاني، تأسيسي بالنظر إلى كثافة وقوة وخصوبة الرموز والإشارات والإحالات المضمنة فيه. وستكون هذه المحتويات موضع صياغة وتفريع وإخصاب درامي، من خلال تفعيل مبدأ المشابهة ومبدأ المباينة.
- مبدأ المشابهة: ثمة قواسم مشتركة بين ويلي/عماد والشيخ المعتدي، فكلاهما بائع متجول وكلاهما يحظى بوضع اعتباري عال في نطاقه الأسري( حب ليندا /رنا لويلي / عماد / حب عصمت /شيرين أغاكاشي للبائع/الزبون/ فريد سجادي حسيني ). ومهما اختلفت دواعي شقاء البطلين ( معاناة الفقر والمديونية وخيبة الأمل والهشاشة فيما يخص ويلي و الازدواجية السلوكية والشبق والحرمان الجنسي فيما يخص البائع /الزبون /فريد سجادي حسيني، فإنهما يموتان في ظروف مأساوية.
تطلب فرانسيس/سانام من ويلي/عماد إتحافها بالجوارب، على سبيل التذلل، وتنشغل ليندا / رانا بخياطة الجوارب، حتى وهي تنصت إلى شكوى وبوح زوجها، الساعي دون جدوى، إلى الطمأنينة و الرفاهية والسعادة. ويعثر عماد / شهاب حسيني، مندهشا، على جوارب المعتدي في غرفة النوم، فيزداد غيضه، ويزداد اقتناعا بجسامة الواقعة. لقد اخترق المعتدي المفتون ببهاء الجسد، كل الموانع، وسمح لنفسه باقتحام فضاء السوى. وفيما كان نزع الجوارب، أمارة التأهب للتلذذ الحسي في طور، فإن نزعها بأمر نافذ من عماد كان علامة التأهب للاحتجاز والتعنيف والإنطفاء الكلي في طور آخر.
-مبدأ المباينة: ينتحر ويلي/عماد راجيا أن تتمتع أسرته بمبلغ التأمين على الحياة من الشركة، و أن تحقق بعد موته ما عجز عن توفيره من عيش رغيد ورفاهية وسؤدد اجتماعي. أما البائع/الزبون/ فريد سجادي حسيني، فيموت بعد ضغوط نفسانية غير محتملة واحتجاز في ظروف سيئة، عقابا له على استباحة حرمة و حميمية امرأة محبة وعاشقة لزوجها.
انتحر ويلي/عماد بعد إدراكه وتفطنه القاسي لوهم الرفاهية المعممة والسعادة الموعودة ووعود الليبرالية الأمريكية، ومات الشيخ، بعد احتجازه وتعنيفه وتعرضيه لضغوط نفسانية رهيبة، بسبب اعتدائه الجسدي والنفساني على رنا/ ترانه عليدوستي.
-التشابك: تتشابك المشاهد المسرحية بالسرد الدرامي، في بعض المفاصل، بما يغني المجرى الدرامي للفيلم (إقدام عماد/شهاب حسيني على سب باباك/ باباك كريمي دون أي مقتضى أو ضرورة فنيين، للتنفيس عن حنقه وغيضه /انشغال سانام/ مينا ساداتي بأداء دورها والتجاوب في نفس الآن مع رنا/ ترانه عليدوستي. ).
-الإنذار: كان موت ويلي/عماد/شهاب حسيني ونواح زوجته ليندا/ ترانه عليدوستي، نذيرا بمصير البائع الليلي المعتدي، المحتجز في المنزل المتصدع. وسواء مات الشيخ المعتدي ( بسبب مرض مزمن في القلب ) أوكمدا ( بسبب تصدع متاريسه الأخلاقية واهتزاز مكانته الرمزية)، فإن الانطفاء الوجودي للشيخ الخاضع للغواية، متناسق مع المجرى الدرامي للفيلم.
ليست نهاية فيلم "البائع" غامضة أو ملتبسة أو مفتوحة خلافا لنهاية فيلم " بخصوص إيلي "؛فلو تتبعنا منطق السرد، وربطنا المشاهد المسرحية وفحواها وإيحاءاتها بمنحنيات الأفعال الدرامية وتحولات الشخصيات (عماد ورنا)، لاقتنعنا بحتمية الانطفاء الوجودي للبائع الليلي المتورط في الاعتداء الجنسي على رنا.
ثمة تداخل في الدلالات والغايات والإيحاءات بين المشاهد المسرحية والسرد الدرامي؛إن المشاهد المسرحية، تأسيسية وليست مكملات تجميلية أو جمالية أو تجريبية، تعرض على سبيل الإفادة البرانية أو التنويه الباعث على التشويق أو المجاورة الباعثة على المقارنة المجردة أو الذهنية بين وضعيتين(الأمريكية والإيرانية ) موسومتين بالفوات والهدر واستلاب الإنسان.
5-تراجيدية الخشبة ودرامية الكواليس:
ليس المسرح في فيلم "البائع" فضاء للتشخيص المسرحي فقط، بل هو كذلك فضاء حاضن لأفعال وسلوكيات ومواقف كاشفة عن سمات الشخصيات (توتر عماد/شهاب حسيني و احتقانه الدائم بعد حادث الاعتداء الجنسي على رنا /ترانه عليدوستي /قلق وتوتر وتردد وخوف رنا/ ترانه عليدوستي )، وردود أفعالها( تحذير باباك عماد من التمادي في إهانته بدون مبرر فني على الخشبة/افتراض عماد سعي الساكنة السابقة في المنزل المكترى إلى الانتقام بعد نقل أثاثها /إخبار عماد/شهاب حسيني بموعد حضور لجنة المراقبة )، وقدرتها على الفهم والتحمل أو حساسيتها وهشاشتها النفسانية (احتجاج ممثلة دور العاهرة سانام / مينا ساداتي من سخرية زميلها في الفرقة سيافاش / مهدي كوشكي. ) والتفاعل والتواصل الوجداني (حوار رنا/ ترانه عليدوستي مع سادرا / سام فاليبور ابن سانام التائه دوما في الكواليس والغارق مثلها في الملل والضجر. ).
إن الكواليس جسر رابط بين عالم المسرحية التراجيدي وعالم الحياة اليومية الحافل بالاستعصاء والهدر الوجودي وأنصاف الحقائق. لا تكتفي الشخصيات الدرامية بوضع الماكياج وإعداد نفسها نفسانيا وذهنيا في هذا الفضاء الوسطي، للانخراط الكلي في عالم المسرحية، بل ترتق فتوقها النفسانية، إذ تعيد ترتيب أوراقها وتتأمل بصمت ما جرى وتفكر بروية في مكر التراجيديle tragique (لحظة استعداد عماد/شهاب حسيني ورنا/ عليدوستي للعرض الجديد بعد موت المعتدي).
II- الرضة وأطوار تحول الشخصيات
1-استراتيجية الانتقام:
كان عماد/شهاب حسيني مبتهجا ومتسامحا قبل وقوع حادث الاعتداء على زوجته (علاقة الحبية بتلاميذه /إخراجه الشاب المعاق من العمارة المتصدعة /تفهم مخاوف راكبة التاكسي /غناؤه أثناء نقل الأثاث إلى المنزل الجديد / علائقه الحبية بأفراد الفرقة المسرحية).
وما إن وقع الحادث، حتى صار تعقب المعتدي والتحري عن آثاره وعلاماته (الجوارب والهاتف والسيارة والنقود) ديدنه. لقد فقد ابتهاجه وانفتاحه و أضحى كئيبا عدونيا لا ينشغل إلا بالكشف عن حقيقة الواقعة والانتقام من المعتدي. (نومه أثناء عرض فيلم "البقرة-1969" في القسم /توتر علائقه بالتلاميذ وإصراره على إحراج تلميذ يتيم أمام زملائه /إمعانه في إهانة واتهام باباك / باباك كريمي/ تهوره أثناء السياقة بعد اختفاء سيارة المعتدي /إصراره على فضح المعتدي(البائع /الزبون/ فريد سجادي حسيني) رغم اعتراض رنا / ترانه عليدوستي على رغبته المحمومة في الانتقام من الشيخ المريض بالقلب /إمعانه في تعنيف المعتدي بعد غيبوبته /إصراره على إحضار أسرة المعتدي خاصة: الزوجة( عصمت /شيرين أغاكاشي) والابنة ( صحرا أسدالهي )وخطيب الابنة(ماجد/ مجتبى بيرزاده).
لم يخرج عماد من حالة الاكتئاب والاحتقان النفساني، بعد الحادث، إلا في لحظات معدودات (الترحيب بالطفل سادرا / سام فاليبور وملاعبته والاستماع إلى أغنية إيرانية)، لم تدم طويلا، بعد اكتشاف مرير لمصدر شراء وجبة العشاء.
لقد مر عماد/شهاب حسيني بثلاثة أطوار:
-طور الانفتاح: انشغل خلال هذا الطور بنشاطه الفني (الإعداد والتمرين والاستعداد للعرض المسرحي )، وعمله الوظيفي(بناء علاقات ودية بالتلاميذ).
-طور التحير والبحث: انشغل بعد الحادث، بفهم ما جرى، وتجميع الإفادات و الآثار، وإيجاد السبل الموصلة إلى المعتدي (الوصول إلى صاحب سيارة النقل عن طريق شرطي مرور متقاعد).
-طور الانتقام والإذلال السادي للمعتدي: يزداد إصرار عماد على معرفة المعتدي(معرفة مقر عمل صاحب سيارة نقل الخبز / الحصول على رقم هاتف خطيب ابنة المعتدي، ماجد / مجتبى بيرزاده / إقناع ماجد بعد إلحاح وإصرار بنقل كتب ولوحات شخصية )، والانتقام منه، ويرسم سيناريو الإيقاع به في المنزل المتصدع.
يتطلب أداء شخصية مركبة، جامعة بين أشواق التغيير والانفتاح الثقافي والاجتماعي (علاقته الودية بالجيران وبالتلاميذ قبل الحادث)، والانغلاق النفساني والثقافي، الناتج عن تغافل مدرك أو غير مدرك عن قوة اللاشعور الثقافي وصعوبة التحرر من مفاعيله، في سياق ثقافي –حضاري يفضل التجاور لا التجاوز، والتراكم لا التخطي.
يقوده الغموض الملابس لرواية رنا عن الحادث، والشك في الجميع، إلى التجهم والعدوانية والعنف الرمزي. وتزداد رغبته في الانتقام، كلما التبست مسالك الحقيقة(اختفاء السيارة)، وأضحى التعرف على المعتدي صعبا.
صار عماد متجهما وعدوانيا غب الاعتداء على رنا وفقد الابتهاج والفرح الملازمين له، سابقا، وأضحى التعرف على المعتدي مطمحه وبغيته الكبرى.
2-استراتيجية الصفح
كانت رنا / ترانه عليدوستي مبتهجة قبل الحادث ومنشغلة بنشاطها الفني(تشخيص دورليندا زوجة ويلي /عماد). إلا أن ابتهاجها سينقلب إلى مكابدة نفسانية وخوف رهابي من بعض الأمكنة ( حمام البيت بالذات/العجز عن الاستحمام في مكان الاعتداء ) والأشخاص ( الخوف من نظرات أحد المتفرجين)، وتوتر واضطراب وتردد. فقد فقدت هناءة الماضي (عجزها عن التشخيص /توتر علاقتها بعماد بعد الحادث/رفضها المكوث بالبيت)، وصارت رفقتها الحياتية بعماد مهددة بعد إصراره وإمعانه في الانتقام والإذلال السادي للشيخ المعتدي.
لقد مرت رنا / ترانه عليدوستي بثلاثة أطوار:
-طور الهناءة: أظهرت كثيرا من الحبور والبهجة والفرح وهي تسهم في إعداد وترتيب الأثاث في البيت الجديد؛ ويكشف تفانيها في أداء وإتقان دورها في مسرحية آرثر ميلر، عن محبتها للفن واقتناعها بدور المسرح التراجيدي في استثارة وإنارة الأذهان.
-طور الارتجاج النفساني: مثل حادث الاعتداء، فاصلا في مسيرة رنا/ ترانه عليدوستي ؛إذ فقدت بعد هذه الرضة، طمأنينتها النفسانية، و صارت قلقة لا يقر لها قرار، وتخشى الوحدة واستعادة الحادث. وقد حاولت التغلب على هذا التصدع النفساني، المؤثر في علاقتها بعماد وفي عطائها الفني، باستيحاء عوالم الطفولة البريئة، من خلال استضافة ابن زميلتها في الفرقة ليلا.
-طور بناء الاختيارات: خلافا لعماد/شهاب حسيني، لم تستسلم رنا/ ترانه عليدوستي، رغم معاناتها النفسانية، للرغبة في الانتقام والتدمير والتحطيم الكلي للغير، بل هددت عماد بالقطيعة والانفصال عنه إن تمادى في تعنيف وتدمير المعتدي. لم تستلم رنا، خلافا لعماد، لشهوة الانتقام، بل تمكنت من تجاوز رضتها résilience، واختيار العفو والغفران والصفح. ولا يمكن تفسير تصميمها على العفو ونأيها عن الإذلال السادي، إلا بعطفها البنوي على شيخ يوحي سمته بالوداعة والحلم والرزانة.
ورغم اهتزاز يقينها النفساني والوجداني بعد الحادث، فإنها لم تنشغل بالانتقام قط، بل أظهرت كثيرا من الحدب البنوي على المعتدي بعد إمعان عماد في تعذيبه نفسانيا وجسديا، واغتياله رمزيا ( فضحه أمام أسرته وكسر هيبته ومكانته الاجتماعية).
وتكمن المفارقة هنا فيما يلي:
فبينما يغرق عماد /شهاب حسيني-بالتدرج-في الانتقام والسادية، بدافع من لاشعور ثقافي غير مروض رغم الاحتكاك بعوالم التراجيديا، فإن رنا /، ترانه عليدوستي تحدب على الشيخ المفتون ببهاء الجسد رغم أعطابه الجسدية(مرض القلب المزمن )، وتهدد عماد شهاب حسيني بالقطيعة إن حرص على كشف أسراره أمام أسرته، بدافع ثقافي عميق:
إن القدامة هنا، مزدوجة؛ فهي منبع القسوة والقهر والانتقام من جهة، وهي كذلك منبع الحدب والعطف والصفح والغفران من جهة أخرى.
قاد الخطأ التراجيدي الصغير (فتح باب المنزل دون التأكد من هوية المتصل)، إلى مأساة نفسانية ورضة أثرت بعمق في وجدان عماد/شهاب حسيني ورنا/ ترانه عليدوستي.
تطلب أداء دور رنا كفاءات تشخيصية عالية، ومعرفة دقيقة وعميقة، بنفسانية المجروح نفسانيا ووجدانيا. تظهر رنا الزوجة العاشقة والفنانة الشغوفة بالفن التشخيصي، كثيرا من الابتهاج والحبور (ابتسامتها العريضة بعد انسحاب الممثلة سانام / مينا ساداتي من العرض احتجاجا على سخرية زميلها في الفرقة/انخراطها في الغناء أثناء نقل الأثاث إلى المنزل الجديد/مداعبتها القطة)، رغم ما تلقاه من عثرات (تصدع العمارة بسبب أشغال الحفر /الاضطرار إلى إفراغ الشقة / صعوبة إيجاد شقة جديدة بطهران).
III -دوافع الاعتلال
1-ازدواجية المثقف:
كشف فيلم "البائع-2016" في الحقيقة عن ازدواجية المثقف الحداثي وارتهانه بلاشعور ثقافي عتيق. يكتفي المثقف-أحيانا-باستدعاء إجابة عتيقة (الانتقام /العنف الرمزي /القتل المعنوي /تخطي القانون)، عن إشكال معقد: العنف الجنساني. وبينما يتوخى المثقف تحرير وعيه من الاستلاب ومن القصور النظري، فإنه لا يلتفت إلى تحرير لاشعوره من مؤثثاته ومن إيحاءات الذاكرة العميقة.
يمعن عماد/شهاب حسيني في القسوة، كلما دنا من المعتدي ؛ويختار الانتقام الهادئ والقاتل، دون أن يلتجئ إلى العنف المشروع (سلطة القانون).
تتغلب إرادة الانتقام هنا على إرادة الفهم والتفهم، في وعي مثقف يتوق إلى إعادة بناء المدينة، وإلى تمتيع الناس بجمالية الفن والتراجيديا.
فهو يشخص التراجيدي، دون أن يتشرب بعمق فلسفته وعمقه النظري.
فهو يحلم بالتغيير، دون أن يغير ذاته في العمق، ويتقمص شخصية مهدور وجودي(ويلي لومان)، دون أن يتمثل عمق التراجيديا ومعنى الهدر الوجودي.
إن الازدواجية هي القاسم المشترك بين عماد(الرغبة في تغيير عالم الأعيان والخضوع عمليا لإملاء اللاشعور الثقافي )والبائع الليلي/الزبون / فريد سجادي حسيني (المندمج ظاهرا في النسق الثقافي التقليدي والمنساق مع رغباته الجنسية باطنا). إن فيلم "البائع"، في الحقيقة، فيلم عن الازدواجية القيمية والسلوكية وما يمكن أن يتولد عنها من نتائج تقرض البناء الاجتماعي والثقافي وتفككه من الداخل.
ولم تكن الإشارة إلى قصة "البقرة " لغلام حسين ساعدي، وعرض مقاطع من فيلم "البقرة -1969" لداريوش مهرجوي، بالنافلة، بل تؤكد التشابه القائم بين بطلين تماهيا، في لحظات فقدان التوازن النفساني والهناءة الوجدانية ( موت بقرة ماشتي حسن /عزت الله انتظامي والاعتداء الجنسي على الزوجة رنا)، بالنوازع اللاإنسانية أو بالإنسان المخبول homo démens.
لقد ظفر الإنسان المخبول، بعد الرضة الكيانية، بالإنسان العاقل، وبالمثقف المتطلع إلى التحرير والتنوير.
كان تصدع العمارة كناية عن تصدع أفدح في البناء القيمي والسلوكي، نتيجة المواطأة على هجانة الفكر و اعتماد المجاورة بدل المجاوزة الجدلية. إن الفيلم إذن، معالجة درامية في العمق للتصدع القيمي والسلوكي، وغياب التناسق والتساوق في الوعي الجمعي. يشترك الإنسان البسيط (الشيخ المعتدي)والمثقف المتطلع إلى التغيير من باب التربية والمناضلة الجمالية، في الازدواجية الثقافية (الانتماء إلى الحداثة فكرا وجماليات والتنكر لها سلوكا ومسلكيات وتدبيرا لنثريات الحياة وتعقلا للغرائز ودفقها فيما يخص عماد/ التمتع بالاستقرار العائلي وبحب الزوجة العطوف والتهافت على ملذات الجسد فيما يخص البائع/الليلي. ).
2-إبدال المجاورة والتباين بين المباني والمعاني:
يتسرب التوتر والهدر والتراجيدي، في هذا الفيلم، من الفجوة القائمة بين التحديث المنجز(العمارات والمسرح والميادين والمدارس الحديثة ) والحداثة الفكرية والسلوكية الغائبة(فرض الرقابة /رفض الكتب المهداة إلى الثانوية بدعوى عدم ملاءمتها بيداغوجيا /ازدواجية السلوك /تحكم اللاشعور الثقافي في السلوك الاجتماعي لجزء من النخبة نفسها ). تعيش شخصيات الفيلم في ذهول وانقباض مستمرين، وتخضع لإكراهات وضغوط ثقافية واجتماعية معلنة ومسكوت عنها(أزمة السكن /غياب الروابط العائلية). في غياب الحداثة الثقافية، تراهن الشخصيات على الازدواجية (الشيخ المعتدي )والإيهام (تمثيل دور امرأة عارية بملابس كاملة)والخوف والتحوط(خوف راكبة التاكسي من التحرش) والإصرار على الانتقام وتجاوز القانون (إقدام عماد / شهاب حسيني على استنطاق وتعذيب واحتجاز الشيخ المعتدي ).
وقد وقف غالي شكري على الفجوة القائمة بين الأسس المادية للمجتمع والبناء النفساني –الاجتماعي للإنسان أو ما سماه ب"الثوابت الرواسخ"، إبان توهج التجربة الإنمائية العراقية(1974). (فالهوة الفاغرة فاها بين الأساس المادي للمجتمع الوطني، والبناء المعنوي للإنسان المتحضر، من الاتساع بحيث تستوجب أن نضعها دوما نصب عيوننا ونقطة أولى في جدول الأعمال). (غالي شكري، يوم طويل في حياة قصيرة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1978، ص. 176).
تقود استراتيجية المجاورة أو ما يسمى بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، إلى التباين الشامل بين المباني والمعاني، بين العالم الداخلي الموزع بين موجهات شعورية ومؤثرات وجدانية ولا شعورية ضاغطة وبين العالم الخارجي الخاضع، تقنيا وعمليا، لمنطق ذرائعي وكمي وتقاني.
VI-تركيب
يعرض فيلم "البائع -2016"مظاهر وتجليات الهدر والحداثة المعطوبة، في سياق ثقافي لم تحسم فيه بعد الإشكاليات النظرية والثقافية الكبرى.
كان موت البائع/الزبون المأساوي، إيذانا بانتهاء الرفقة الحياتية بين عماد ورانا، واختيار القطيعة والانفصال، والاحتفاء بالرفقة الفنية فقط، كما في مشهد التقابل التأملي في قاعة الماكياج.
يذوي الحب وتجف منابعه، بسبب أخطاء تراجيدية صغيرة من كل الأطراف (فتح الباب دون التأكد من هوية المتصل/الاستسلام لغواية الجسد وقوة الرغبة /الاستغراق في الانتقام والسادية ) وبسبب أخطاء تاريخية كبرى و تصدع البناء القيمي واستشراء تحديث بلا حداثة وازدواجية سلوكية قاتلة. تسدل الدراما أستارها، ليبقى المسرح، فضاء الاستعادة بامتياز، ومرتع التراجيدي الخصيب.