بات الإخوة العرب، سواء أكانوا مقيمين في أوطانهم، أم مغتربين في الأميريكيتين وأوروبا وسواهما، بل وحتى أولئك الذين دفعتهم المآسي إلى اللجوء بعيداً عن أوطانهم، يقفون اليوم أمام أسئلة عصيّة تتناسل بلا انقطاع: ما الذي يجري حقاً على الساحة العربية؟ وكيف تحوّلت حياتنا، أفراداً وجماعات، إلى مسرح تُبثّ وقائعه على الشاشات والجرائد كل يوم، وكأننا مشاهدون صامتون لمأساة لم نكتب فصولها ولكننا ندفع ثمنها؟
إن قراءة متأنية وعميقة لما يحدث تكشف لنا بوضوح أنّ تلك التساؤلات ليست ترفاً ذهنياً ولا مجرد فضول، بل هي صرخة حق، ووجع مشروع. فما يعيشه المواطن العربي اليوم ــ في الداخل أو الخارج ــ هو في جوهره مواجهة يومية مع سيل من الأسئلة التي تتزاحم في العقل والوجدان، غير أنّ ما يعيبها أنها تظل، في معظم الأحيان، أسئلة معلقة بلا جواب، أشبه بأحاجٍ مفتوحة على احتمالات قاتمة، لا تجد من يضيء دهاليزها.
وإذا تأملنا في طبيعة هذا الغموض، نجد أنّه لم ينشأ من فراغ، بل من واقع إعلامي مرتبك، يعيد تدوير الصور والأخبار، فيغرق المشاهد بسيل من العناوين العاجلة والتحليلات المتناقضة، حتى غدا المواطن حائراً: أيّها يصدّق؟ وأيّها ينكر؟ لقد تحوّل الإعلام العربي، في كثير من وجوهه، من نافذة تطلّ على الحقيقة إلى متاهة تضلل الباحث عنها!
فالصحف والفضائيات تتسابق على بثّ الصور المثيرة والمانشيتات الصاخبة، وكأن الغاية هي اجتذاب العين قبل إقناع العقل. ومع هذا الضجيج، يغيب الجوهر الأهم: إنسان عربي يتألم، يشرّد، ويفقد بيته وأحلامه، بينما يتناوب الكتّاب والإعلاميون على تقديم تحليلات كثير منها أقرب إلى اجتهادات شخصية تلبس المزاج ثوب الحقيقة. ولعلّ ما يضاعف مرارة المشهد أنّ عدداً غير قليل من الأقلام تكتب تحت إغراء المكاسب المادية أو بريق الشهرة السريعة، لا بدافع الصدق في نقل الواقع!.
والمفارقة أنّنا نجد، في المقابل، أقلاماً صادقة نزيهة، قليلة العدد لكنها لامعة الأثر، تحاول جاهدة أن تنزع الأقنعة وتضع النقاط على الحروف. هؤلاء الكتّاب لا يواربون ولا يتملقون، بل يكتبون بضمير حي، مدفوعين بإيمان أنّ للكلمة وظيفة أخلاقية قبل أن تكون مهنة. وهم الذين يمنحون القارئ العربي جرعة أمل وسط هذا الخراب الإعلامي، إذ يذكّرونه أنّ الصحافة يمكن أن تظل صوتاً للحق لا أداة للتضليل.
لكن المشكلة الأعمق لا تكمن في وجود هذا الكاتب أو ذاك، بل في السياق العام الذي يغرق فيه المتلقي. فالمواطن العربي يجد نفسه أمام سيل يومي من المقالات والبرامج والحوارات، حتى لم يعد يعرف أيّها يعبّر عن الواقع، وأيّها يزيّفه. وفي خضمّ هذا التضارب، يطرح السؤال المرير: ما سرّ هذا التسابق الجنوني على النشر؟ أهو بحث عن لقمة العيش في زمن صعب، أم هو استعراض للأسماء على صفحات الجرائد ومواقع التواصل؟ وهل تحوّلت الكتابة إلى سلعة تسوّق كما تسوّق البضائع، بلا مضمون حقيقي، بل بطعم باهت أو معدم؟
لقد بات من المألوف أن يقفز إلى ساحة الكتابة مئات الأشخاص في ليلة وضحاها، يقدّمون أنفسهم كتّاباً أو محللين، يوزعون الآراء يميناً ويساراً بلا خبرة ولا عمق. ومع ذلك يظلّ السؤال الأخلاقي معلقاً: أيّ مسؤولية يحملها هؤلاء تجاه قارئ يفتش عن بصيص صدق؟ وهل يدركون أنّ أقلامهم قد تساهم في تكريس الوهم أو في إشعال مزيد من الفتن؟
وإذا انتقلنا إلى المشهد الإعلامي العربي في المهجر، ولا سيما في بريطانيا حيث تتكاثر الصحف اليومية الصادرة بالعربية، نجد أن كثافة النشر بلغت حدّ التخمة. فالمقالات تتزاحم، والرؤى تتناقض، واللغة تتراوح بين المبالغة والتهويل. ورغم ذلك، يبقى من حقّ كل كاتب أن يدلي بدلوه، فهذا جوهر حرية التعبير. لكن ما نرجوه أن تكون تلك الحرية مشفوعة بالمسؤولية، وأن يدرك الكاتب أنّ قارئه ليس أداة بل إنسان يئن تحت ثقل الواقع، ويحتاج إلى كلمة صادقة أكثر مما يحتاج إلى مقال مصاغ بإتقان شكلي ومفرغ من المضمون.
إن ما نطلبه من زملائنا الكتّاب والإعلاميين ليس كثيراً: بعض الإنصاف للحقائق، قليل من الرحمة بمشاعر القارئ، وحرص أكبر على تقديم صورة موضوعية لما يجري، بعيداً عن التهويل الذي يضاعف الخوف أو التجميل الذي يطمس المعاناة. فالمواطن العربي اليوم يواجه أزمات لا تعد ولا تحصى: فقر مدقع، تشرّد وضياع، موت ودمار، وانسحاق تحت عجلة العوز والحروب. ومن لم تداهمه هذه الكوارث مباشرة، يعيشها عبر أقاربه وأصدقائه وأبناء وطنه. في مثل هذا السياق، تصبح للكلمة وظيفة وجودية: إما أن تبلسم وتضيء، أو أن تجرح وتضلل.
ولأن القلم، في جوهره، رسالة ومسؤولية، فإن الأمانة تقتضي أن يترجم الواقع كما هو، لا كما يراد له أن يصوّر. المطلوب من الكاتب أن يكون شاهداً لا مهرجاً، وضميراً لا بوقاً. فالحقيقة ليست سلعة قابلة للمساومة، بل هي الحق الذي يتيح للإنسان العربي أن يرى نفسه وواقعه بلا أقنعة. ومتى ما استطاع الإعلام أن ينهض بهذه المسؤولية، تحوّل من عبء يضاعف المأساة إلى أداة وعي وبناء.
إننا بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعلام صادق يعيد الثقة إلى المتلقي، ويقدّم له رؤية متوازنة تعينه على فهم واقعه، لا إعلام يضاعف الضبابية ويرسم صورة مرعبة للعالم. وبحاجة إلى كتّاب يكتبون بضمير، لا بأقنعة، يرون في القارئ شريكاً في البحث عن الحقيقة، لا مجرد رقم يزيد من نسب المشاهدة أو مبيعات الصحيفة. عندها فقط يمكن أن نواجه هذا الواقع الإعلامي المرير بشجاعة، وأن نعيد للكتابة معناها الأصيل: أن تكون مرآة للإنسان، وصوتاً للحقيقة، ونافذة للأمل.