: آخر تحديث
الهيمنة في زمن الشيفرة

الحرب الإيرانية الإسرائيلية: شيفرات على حافة الانفجار

2
2
2

ليست الحرب بين إيران وإسرائيل مجرّد صدام جيوسياسي تقليدي، بل هي مرآة لعالم تتصارع فيه الرؤى قبل أن تتصارع الجيوش، وتتنازع فيه الهويات قبل أن تتنازع فيه المصالح. إننا أمام ما يمكن تسميته بـ “نزاع رؤيوي" :إيران ترى نفسها حاملة لرسالة ثورية تتجاوز الحدود القُطرية، وإسرائيل تسعى لترسيخ وجودها وحمايته في بيئة ترى معظمها معاديًا لطبيعتها وهويتها.

ومن منظور فلسفة القوة، هذا الصراع يُعيد إنتاج مفهوم "الإرادة في الصراع" الذي تحدث عنه نيتشه، ولكن بشكل جماعي، حيث الدول تتحرك لا فقط بدافع البقاء، بل بإرادة الهيمنة المعنوية ورغبة تشكيل الإقليم وفق تصوراتها الخاصة عن العدالة والتهديد.

أما من منظور هوبزي، فالدول تتصرف في فضاءٍ يسوده الفراغ السلطوي، حيث تغيب الضوابط المطلقة، فتسود لغة الردع والتحالفات والتهديد الوجودي. ومن هنا، تصبح الحرب أو احتمالها استمرارًا للسياسة بوسائل أخرى، كما يرى كلاوزفيتز، لكنها في هذا السياق تحمل بُعدًا هوياتيًا-دينيًا-تاريخيًا يجعلها أكثر تعقيدًا من مجرد صراع مصالح.

في عمق هذا الصراع المحتدم – المعلن حينًا والمستتر في أغلب الأحيان – لا يقف الخلاف عند حدود الجغرافيا أو توازن القوى، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق: صراع سرديات، ورؤى ميتافيزيقية متباينة حول معنى الدولة، وطبيعة العدو، والحق التاريخي.

فمن المنظور الإيراني، تتجلى إسرائيل لا كدولة فحسب، بل كرمز للمنظومة الغربية التي تُتهم بإقصاء الشرق عن مركز الفعل الحضاري. أما في العقل الإسرائيلي، فإيران ليست مجرد خصم إقليمي، بل تمثل الخطر الوجودي الذي يُهدد فكرة "الدولة-الملجأ" المؤسسة على ذاكرة الإبادة وهاجس الاستمرار.

وفي ضوء فلسفة هيغل عن التاريخ كصراع بين الرؤى المتناقضة التي تصنع الوعي، نجد هذا الصراع يتغذى على جدلية التناقض ذاته: الرغبة في البقاء مقابل إرادة التأثير، الأمن مقابل المعنى، الدولة ككائن مادي مقابل الأمة كفكرة.

لكن الإشكال الأخطر ليس فقط في تضاد الرؤى بين إيران وإسرائيل، بل في التصدع العميق داخل المواقف العربية والإسلامية. إذ يُفترض – من منطلق أخلاقي وديني وسياسي – أن تُجمع هذه الدول على موقف مبدئي من الاحتلال الإسرائيلي، لكنه الإجماع الذي انكسر عند أبواب الطائفية. فقد انقسمت المواقف لا على أساس المبدأ، بل على أساس الاصطفاف المذهبي، فتغلغلت الذكريات المريرة لبعض الطوائف من ممارسات إيران، فتحوّل الرفض السياسي إلى تردد، بل أحيانًا إلى نوع من "التشفي غير الحكيم"، وكأن حسابات الهوية الطائفية أرجَحت كفة الشعور على كفة القضية.

وهنا، تنكشِف خطورة تسييس الهوية الدينية، حين تَحول دون تبني موقف موحّد تجاه قضايا كبرى تتجاوز الانتماء الضيق، وتحتاج إلى بوصلة أخلاقية لا تُضللها ثنائية "العدو والخصم".

البعد الديني والسيكولوجي لا يقل مركزية عن السياسي: فكلا الطرفين يوظف الرمز الديني لإضفاء طابع كوني على الصراع، مما يعلّق أي تسوية سياسية على مشجب الأسطورة والنبوة والتكليف، وهو ما يجعل الحوار صعبًا لأن كل طرف يخاطب الآخر بلغة مختلفة جذريًا.

أما من حيث الأخلاق السياسية، فإن الحرب هي نتاج فشل العقلانية السياسية في ترويض الهويات المتطرفة، وانهيار آليات الردع أمام الخطابات المتعطشة للمواجهة. هنا، تظهر مسؤولية المجتمع الدولي ليس فقط في ضبط الإيقاع العسكري، بل في دفع الطرفين نحو وعي نقدي يُفرّق بين الذات والرسالة، وبين العقيدة والمصلحة.

إسرائيل استغلت لحظة ضعف إيرانية بعد تراجع نفوذ حلفائها في المنطقة، واعتبرت أن الوقت مناسب لتوجيه ضربة استباقية. لكنها تحذر من أن غياب مشاركة أمريكية مباشرة في ضرب منشأة "فوردو" النووية يجعل تدمير البرنامج الإيراني مستحيلاً، ويمكن فقط تأخيره.

ويبدو أنها تجاوزت هدف وقف البرنامج النووي الإيراني، وتسعى الآن إلى إضعاف النظام الإيراني سياسيًا واقتصاديًا، وربما تمهيدًا لتغييره. لكن هذا المسار محفوف بالمخاطر، لأن أي تنازل كبير من طهران سيُعد "استسلامًا غير مشروط"، ما قد يؤدي إلى انهيار داخلي للنظام أو تصعيد غير محسوب.

بينما إيران، رغم الخسائر، أثبتت قدرتها على إحداث ضرر مباشر في العمق الإسرائيلي، باستخدام صواريخ متطورة التي اخترقت الدفاعات الجوية. وأنها تمتلك ترسانة كافية لمواصلة القتال لأسابيع، مما يضع إسرائيل أمام تحدٍ غير مسبوق. وهي رغم الخسائر، لم تُهزم بعد. فهي تراهن على هشاشة الجغرافيا الإسرائيلية: دولة صغيرة المساحة، مكتظة بالسكان، تجعل أي ضربة—محدودة—تُحدث أثرًا نفسيًا وإعلاميًا مضاعفًا. في المقابل، تمتلك إيران عمقًا جغرافيًا يسمح لها بامتصاص الضربات، ولو مؤقتًا، وتوظيفها في خطاب الصمود والمظلومية.

أما العامل الأكثر غموضًا فهو الموقف الأمريكي المتأرجح بين دعم غير مشروط لإسرائيل، ورغبة في تحقيق نصر دبلوماسي عبر صفقة نووية جديدة مع طهران. هذا التردد يفتح الباب أمام سيناريوهات متضاربة: فدخول واشنطن المباشر قد يُنهي الحرب سريعًا لصالح إسرائيل، لكنه أيضًا قد يُشعل الإقليم بأكمله، ويُفقد أمريكا ما تبقى لها من نفوذ ناعم في المنطقة.

لكن تبقى هناك عوامل مقلقة، حيث تبرز شخصية دونالد ترمب كعامل مربك في الصراع مع إيران، إذ يعتمد أسلوبًا سياسيًا قائمًا على التناقض المتعمد والتصريحات المتضاربة، مما يفقد خصومه القدرة على قراءة نواياه بدقة. هذا الأسلوب يزرع الشك ويُربك الحسابات، ويحوّل كلامه إلى أداة ضغط أكثر من كونه التزامًا. وفي سياق الأزمة، منح ترمب إيران مهلة أسبوعين، لم تكن مجرد زمن للتفاوض، بل وسيلة لإنتاج مبرر للحرب أو انتظار تطورات قد تدفع إسرائيل نحو المواجهة، مما يجعل هذه المهلة أداة سياسية بامتياز لتشكيل المشهد الدولي لصالحه.

ومع ذلك، تشير تقارير وتحليلات موثوقة إلى أن الولايات المتحدة تمتلك خططًا سرية وطارئة للتعامل مع سيناريوهات الحرب بين إسرائيل وإيران، بعضها تم تطويره منذ سنوات، وبعضها تم تحديثه مؤخرًا بالتنسيق مع إسرائيل. بمعنى آخر، الولايات المتحدة لا تتحرك بعشوائية، بل تملك سيناريوهات متعددة تتراوح بين الدعم الاستخباراتي، والردع العسكري، والتدخل السياسي لفرض تسوية. لكن تفعيل هذه الخطط يعتمد على تطورات الميدان، وردود الفعل الإقليمية، وموقف الداخل الأمريكي.

وتشير مراكز أبحاث مرموقة مثل معهد الشرق الأوسط أن الحرب قد تستمر في شكلها غير المعلن لعدة أشهر أو أكثر، وربما تتحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. وان نهاية الحرب بين إيران وإسرائيل لا تبدو وشيكة، بل مرهونة بعدة سيناريوهات متشابكة، وكل منها يحمل نتائج مختلفة على المدى الزمني والاستراتيجي. ومن المرجح أن تستمر الحرب من أسابيع الى أشهر على المدى القصير من خلال الضربات الجوية المتبادلة، مع محاولات محدودة للتصعيد من الطرفين. إسرائيل تسعى لتقويض البنية التحتية النووية والعسكرية الإيرانية، بينما تحاول إيران امتصاص الضربات وتفادي الانهيار الكامل.

اما على المدى المتوسط (6–12 شهرًا)، قد نشهد تحولًا نحو "حرب استنزاف" غير معلنة، شبيهة بما حدث في العراق بعد 1991 أو سوريا بعد 2012، حيث تبقى الأنظمة قائمة ولكنها منهكة. بينما على المدى الطويل (أكثر من عام): إذا لم تحدث تسوية دبلوماسية، فقد تتجه إيران إلى إعادة التموضع الإقليمي، مع تراجع نفوذها في سوريا ولبنان، بينما تعزز إسرائيل مكانتها كقوة إقليمية ضاربة.

"برأيي، هذه الحرب مرشّحة للتوقف في أي لحظة. فإسرائيل، رغم تفوقها العسكري، لا تملك القدرة النفسية ولا الجغرافية على تحمّل موجات مستمرة من الصواريخ، إذ أن أي ضربة تُظهر هشاشتها للعالم. وعندما تدرك الولايات المتحدة أن الخطر بات داهمًا فعلاً، ستتدخل — لا من خلال الميدان، بل عبر حرب من الاتفاقيات والمناورات السياسية — لفرض تهدئة تحفظ التوازن وتمنع الانفجار الشامل.

ترتكز الرؤية الإسرائيلية في هذه الحرب على استراتيجية استنزاف مركّبة، تهدف أولًا إلى تفكيك البنية التحتية للقوة الإيرانية: القدرات الصاروخية، المنظومات الدفاعية، شبكات القيادة والسيطرة، وحتى الرموز الإعلامية والنفسية. فالهدف ليس الانتصار في معركة محدودة، بل إضعاف الهيكل حتى يتهاوى الرأس دون مقاومة تُذكر.

هذا النهج يفترض أن تفكيك القوة يُمهّد لسقوط الإرادة. فإذا فقد النظام الإيراني قدرته على الردع والسيطرة، وانكشفت جبهته الداخلية أمام ضغط نفسي وإعلامي متزامن، فإن "اصطياد الرأس" لن يحتاج إلى حرب شاملة، بل إلى لحظة مدروسة بدقّة في نهاية نزيف طويل.

وفي المحصلة، لسنا أمام حرب تقليدية، بل أمام اختبار حقيقي لوعي المنطقة، ولمدى قدرتها على تجاوز ذاكرة الطائفة نحو أخلاق الموقف، وعلى العودة إلى مفهوم أن العدل لا يُجزّأ، وأن الاحتلال لا يصبح أقل فظاعة حين يواجهه خصم لا نحبه.

في النهاية، هذه الحرب ليست فقط معركة بين دولتين، بل اختبار لميزان القوى في الشرق الأوسط، ولقدرة الأنظمة على البقاء في عصر تتداخل فيه الجغرافيا بالعقيدة، والمصالح بالرموز. النصر هنا ليس فقط من يربح المعركة، بل من ينجو من تبعاتها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.