: آخر تحديث

حين تتحول راية النضال إلى مشرطٍ يذبح الوطن

4
3
3

ليس في التاريخ أكثر خطورة من مناضلٍ انتصر؛ فهو لم يعد يرى الحقيقة، بل يراها انعكاساً له، يصير الوطن امتداداً لبطولته، والملايين ظلالاً لصوته، والمستقبل مرهوناً بمزاجه. في المئة عام الأخيرة، تكرّست أكبر الخيبات على يد من حملوا السلاح أو الفكرة من أجل (التحرر)، ثم استداروا على أوطانهم فحوّلوها إلى ساحات خراب. ناضلوا ضد القهر، ثم أعادوا إنتاجه باسم الثورة، حاربوا الظلم، ثم نصّبوا أنفسهم قضاةً وجلادين، وكتبوا دستوراً جديداً: كل من يخالفني… خائن.

ماو تسي تونغ قاد الملايين لتحطيم النظام الإقطاعي، ثم جفّف أنهار الصين بمجاعة (القفزة الكبرى). مات الملايين لا لذنب، بل لأن الزعيم لا يُسأل. حين تجوّع الأمة باسم التنمية فأنت لا تبني الدولة، بل تؤسس لعبادة القائد. وحين يُسجن المفكرون لأنهم (يشكّون)، فأنت لا تحرس الثورة، بل تسرقها.

فيديل كاسترو أمسك بكوبا من عنقها لأكثر من نصف قرن، كلّفها مقاومة الإمبريالية، ثم حرّم الحريات، وأغلق الأفق، وحوّل الجزيرة إلى متحف قديم يمشي على رفات الأفكار. لم يتحرر الكوبيون… فقط انتقلوا من التبعية لواشنطن إلى عبودية الرمز. المنفى صار الخلاص، والركوع صار قانوناً.

تشي غيفارا، ذلك الذي ملأ الجدران بصوره، لم يفهم أن الثورة ليست بدلة عسكرية. حمل بندقيته إلى بوليفيا، ظناً أن الشعوب تتشابه، فمات وحيداً، يطارد حلماً لم يكن لأرضه جذور. النضال بلا وعي اجتماعي… انتحارٌ مؤجّل.

صدام حسين لم يكن مجرد مناضل في حزب البعث، بل مشروع نهوضٍ مغلّفٌ بالخوف. قاتل الاستعمار، ثم استنسخ أساليبه. أقام جمهوريات الرعب، وخاض حرباً عبثية ضد إيران رغم أنها السبب في اندلاع الحرب، لكن غابت عنه الحكمة في الخروج بأقل الأضرار، ثم قرّر غزو الكويت في أغبى قرار سياسي في جغرافيا العالم العربي، وكأن العراق مزرعة قتال لا حدود لها. دمّر الدولة وأعطى للعالم ذريعة أن يفتك بها باسم تحريرها. كان بطلاً في عيون من صدّقوا صلابته، ثم صار لعنةً في كتب الجغرافيا التي تمزقت خارطتها باسمه.

ياسر عرفات، صانع الهوية الفلسطينية الحديثة، لم يخن القضية، لكنه خان حذر التاريخ. قبِل باتفاق أوسلو، ومنح الاحتلال غطاءً رسمياً للابتلاع. مناضل كبير، نعم، لكنه اختار أنصاف الحلول في معركة لا تقبل القسمة. أدار ظهره لفكرة التحرر الكامل، فخرجت غزة من عباءته، وفلسطين من قبضته.

معمر القذافي حوّل النضال إلى كتيّب غامض لا يُفهم ولا يُناقش. كان مهرجاناً دائماً للخطابة، بنى (جماهيرية) من كلمات، ومزّق المؤسسات، واستفرد بكل شيء. أنشأ دولة بلا دستور، بلا برلمان، بلا قانون. كل شيء مرهون بصوته، حتى صمته كان يُقرأ كقرار. وحين سقط، لم تسقط دولة، بل سقط رجل… وانكشفت الفوضى التي كان يخفيها بقبضته.

هوغو تشافيز حمل على كتفيه فقراء فنزويلا، ثم خنقهم بالشعارات. وزّع النفط كمن يوزع الأحلام، دون صناعة، دون إنتاج، دون رؤية اقتصادية. بنى مجداً من عاطفة الناس… ثم تركهم في جحيم انهيار عملةٍ تساوي حفنة غبار.

روبرت موغابي ناضل ضد الاستعمار البريطاني، واستحق الاحترام، لكنه جلس على كرسي الحكم أكثر من 35 عاماً، ونسى لماذا بدأ. أطلق قرارات زراعية دموية بلا بديل، وسلّم البلاد للفقر والعزلة. النضال حين لا يعرف متى يتوقف… يتحول إلى استبداد مقدس.

حسن نصر الله كان أيقونة المقاومة في وجه إسرائيل بنظر أنصاره، وهو في الحقيقة مجرد بندقية في يد المشروع الإيراني. حين دخل الحرب السورية، انكشفت صورته، وانقسم حوله لبنان، وتحولت مقاومته المزعومة من قضية إلى اصطفاف. لم يسقط بالسلاح، بل بالتسييس الطائفي للنصر.

نيلسون مانديلا، الرمز الذي لا يُمس، اختار التسامح على المحاسبة، والرمزية على الإصلاح الاقتصادي. تحررت جنوب إفريقيا سياسياً، لكن بقيت طبقياً في قبضة البيض. السود نالوا حرية التصويت، لكنهم لم يملكوا شيئاً. مانديلا أسّس دولة السلام، لكنه لم يسحق بقايا الظلم الاقتصادي، وترك حلم العدالة ناقصًا.

حتى غاندي، المناضل المسالم، لم ينجُ من شراك القداسة. قاد الهند إلى الاستقلال، لكنه أطلق طوفاناً من الأخطاء السياسية الناعمة التي نزفت عواقبها دموية. رفض مواجهة الانقسام الطائفي بحزم، واستخفّ بخطره، فاستفاقت الهند على مذابح بين المسلمين والهندوس، وميلاد باكستان كجرح انفصالي دامٍ. غاندي لم يحمل سيفاً، لكنه بسذاجته السياسية ترك الطوائف تتصارع، وسلّم البلاد إلى مستقبل يشتعل تحت رمادٍ من التقوى.

في كل هؤلاء، تتكرّر الخطيئة ذاتها: المناضل حين ينتصر، يعتقد أنه تجسيد للحق، وأن كل من يخالفه إما عميل أو جاحد أو جاهل. ومن هنا تبدأ النهاية. يقتل الحرية باسم الأمن، ويؤجل العدالة باسم الاستقرار، ويعيد صياغة الخوف باسم الوطنية. التاريخ لا يرحم من يخلط بين الشعب والوطن، وبين الذات والحقيقة.

في المئة عام الأخيرة، لم تكن المشكلة في القمع فقط… بل في القمع الذي جاء بعد الحلم، في الكوابيس التي زرعها أولئك الذين زعموا أنهم يحملون نور الخلاص، فإذا بهم يُطفئون آخر شمعة في عيوننا. المناضل حين لا يعرف التوقيت، لا يصبح منقذاً… بل يصبح كارثة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.