: آخر تحديث

قراءة ثقافية من منطلق اقتصاد

3
3
3

في نشرة ثقافية كُتبت بلغة الأسواق، يغدو الحبر أشبه بـ"النفط الثقافي" تتقلّب أسعاره في بورصة المعرفة كما تتقلّب أسعار الخام في أسواق الطاقة. وبين مدّ وجزر، وصعود وهبوط، لا تُقاس القيمة هنا بالبراميل، بل بالأفكار والمضامين، ولا يُحدد الربح والخسارة بالأرقام، بل بما يبقى من أثر الكلمة في الوعي والوجدان.

ومع هبوط هذا "الحبر" دون حاجز العشرين دولارًا للبرميل، سواء أكان "خام الرصاص القياسي" أم "الحبر الجاف"، على ضفّتي الخليج والمحيط، يُجمع المحللون على أنَّ تدخّل غير المثقفين لن يوقف هذا التدهور. فالسوق الثقافية، كما يبدو، دخلت مرحلة تصحيح قاسية؛ إذ فقدت بورصات الحرف في آسيا وأفريقيا وأوروبا والأميركيتين نحو خُمس قيمتها خلال أسبوعين فقط من الربع الثاني، ولم تكن أسواق الحبر العربي بأفضل حال في هذا التراجع الجماعي.

في المقابل، يبرز اقتصاد رقمي ناشئ (السوق الإلكتروني الذكي) الذي شهد نموًا معتبرًا مع صعود نجم الذكاء الاصطناعي. غير أن هذا الصعود لم يكن بلا ثمن. فقد امتعض الكتّاب، وتضجر الشعراء، وانزعج الأطباء والأكاديميون، وحتى المطربون، إذ وجدوا أنفسهم أمام آلةٍ تُقلّد أصواتهم وتُنتج بدلًا عنهم، منافسة لا تعرف الكلل.

لقد أصبح الذكاء الاصطناعي زميلًا ثقيل الظل، يتقاسم معهم الهواية والوظيفة، بل ويتفوّق أحيانًا. وهنا يكمن الهاجس الأكبر: هل سنستبدل الذكاء البشري الطبيعي بماكينات باردة لا تشعر؟ هل نُسلّم مفاتيح الذاكرة والفهم والإبداع لخوارزميات بلا ضمير؟ وماذا عن الأخلاق حين تُولد الأكاذيب، وتُنتحل النصوص، وتُرتكب السرقات الأدبية باسم الذكاء الاصطناعي؟ أليست هذه أداة تُستخدم في الشر كما تُستخدم في الخير؟ وحين يسيء الإنسان استخدامها، من الذي يُحاسب؟ الإنسان أم الآلة؟

في هذا العصر، تُبثّ المواد المقروءة والمسموعة والمرئية إلى مليارات الأجهزة، تُضغط وتُعاد تأويلها وتتحوّل إلى خدمات ومعطيات جديدة. من يمتلك هذه المعطيات، يمتلك القوة. ومن يسيطر على تدفّق المعلومات، يملك السيطرة على العقول والعواطف. وهذا ما تفعله شركات كبرى، تتطلّع أن تكون كل شيء لكل أحد، حتى بات الناس يتقبلون الخطأ الآلي ولا يغفرون الخطأ البشري، وكأننا دخلنا عصر التحيّز الرقمي.

لقد أضعفنا ذاكرتنا، وأسرفنا في الاعتماد على المخزون الإلكتروني، حتى بتنا ننسى ما ينبغي أن نتذكر، ونتذكّر ما كان أولى أن يُنسى. تراكم التوافه، وضجيج المعلومات، واختلاط الغث بالسمين، جعلنا نعيش في زمن ضبابي لا نستطيع فيه التمييز بين المعلومة والمعنى، ولا بين الأثر والإثارة.

وفي الختام، كان وصف المشهد الثقافي والتقني مرآةً لمدى يقظة الوعي البشري أو غفلته، وإننا اليوم، بأمسّ الحاجة إلى مراجعة زاوية الرؤية، قبل أن نطمح إلى تغيير النتائج. فالمعضلة ليست في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في جهلنا بكيفية استثماره وتطويعه لصالح الإنسان والمجتمع.

وإن مما يُثير التأمل الفلسفي، أن العالم الغربي يخوض غمار النقاش حول فضائل الذكاء الاصطناعي! ساعيًا إلى تطويره وتأطيره، في حين ينحصر الخطاب في معظم أرجاء العالم العربي في تعداد المفاسد والمخاوف، سواء تلك الواقعة أو المتوقعة، وكأنّنا لا نرى في التقنية إلا وجهها المظلم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.