: آخر تحديث

إسرائيل وإيران: معركة الرأس بعد قصقصة الأطراف

4
4
3

أصبح من الممكن القول إن اللحظة السياسية والعسكرية التي تنتظرها إسرائيل منذ سنوات قد نضجت بالكامل. فبعد مراحل متتالية من استنزاف ما يُعرف بـ«محور المقاومة» في ساحاته المتعددة من لبنان إلى سوريا، ومن غزة إلى العراق واليمن، دخلت تل أبيب في طور الهجوم المباشر على رأس هذا المحور: الجمهورية الإسلامية في إيران. ويبدو أن هذا التصعيد ليس مجرد جولة في حرب طويلة الأمد، بل يمثل محاولة للكتابة على الصفحة الأخيرة في كتاب المواجهة، بهدف إسقاط النظام الإيراني، سواء عبر ضربة عسكرية قاضية أو من خلال فرض استسلام سياسي شامل قد يأتي آجلاً أو عاجلاً.

لفهم طبيعة المعركة التي تخوضها إسرائيل، يجدر التوقف عند تسمية العملية العسكرية التي أطلقتها ضد إيران: "الأسد الصاعد". ليست هذه مجرد تسمية حماسية، بل تعكس بنية ذهنية تعبّر عن مركّب نفسي وتاريخي وديني، يراد من خلاله تثبيت مشروعية المعركة في الوعي الإسرائيلي، والترويج لها في الأوساط الغربية كصراع لا بد منه لإعادة "ترتيب" الشرق الأوسط وفقاً لمعايير الهيمنة الإسرائيلية.

في المقاربة الأولى، يتخذ شعار "الأسد الصاعد" دلالته من الرمز الحيواني نفسه، إذ يُعد الأسد تجسيداً للقوة والسيادة والهيمنة. وبذلك فإن إسرائيل تشير إلى أنها تستنهض كل عناصر قوتها، لا لمجرد تحجيم إيران، بل لتفكيك النظام الذي يُعدّ المنافس الأبرز لمشروعها الإقليمي. وهو نظام، برأي قادة تل أبيب، استطاع خلال العقود الماضية أن يبني شبكة نفوذ تمتد من شواطئ لبنان إلى جبال اليمن، ومن حدود غزة إلى أحياء دمشق، وبات يُهدد بتغيير قواعد الاشتباك التي أرستها إسرائيل منذ نهاية الحرب الباردة.

أما البُعد الثاني، وهو الأكثر استبطاناً، فيتمثل في الطابع التوراتي للتسمية. فالنصوص الدينية العبرية، وتحديداً سفر العدد، تصف "الشعب القوي" بأنه كالأسد الذي لا يركن حتى ينهش فريسته ويشرب دماء أعدائه. استدعاء هذا الخطاب لا يقتصر على التنشيط الرمزي للمجتمع الإسرائيلي، بل يمثل إعادة صياغة للمهمة السياسية والعسكرية الراهنة كواجب ديني وتاريخي، يرتبط بتاريخ الملك داوود وسبط يهوذا، حيث يُراد تقديم الحرب كاستمرار لمعركة أبدية بين الحق التوراتي وأعدائه.

لكن التلاعب الرمزي لا ينتهي هنا. فإسرائيل تدرك تماماً أن شعار "الأسد والشمس" كان، لقرون طويلة، الرمز القومي للإمبراطورية الفارسية، قبل أن تُلغيه الثورة الإسلامية في 1979. بذلك، يكتسب اسم العملية بعداً نفسياً معقداً: هو بمثابة طعن في هوية النظام الإسلامي من خلال تذكير الإيرانيين بـ"ذاتهم السابقة"، حين كانت إيران إمبراطورية علمانية ذات نزعة قومية، متصالحة مع الغرب، بل وتحظى بدور متقدم في رسم التوازنات الإقليمية. هذا الاستدعاء يحمل رسالة مزدوجة: تذكير النخبة الإيرانية بأن الدولة الإسلامية انحراف عن التاريخ الإيراني، ودعوة مبطنة للعودة إلى تلك "الهوية الأصلية"، ولو على أنقاض النظام القائم.

من هذا المنطلق، يتضح الهدف الاستراتيجي الأبعد للعملية الإسرائيلية. فالمطلوب، بحسب ما يُستشف من أدبيات حكومة بنيامين نتنياهو، ليس فقط وقف التخصيب النووي، بل إعادة صياغة النظام الإيراني برمته. هناك رغبة إسرائيلية معلنة بأن تعود إيران إلى ما قبل الثورة، أو أن تقودها قوى مستعدة للتخلي عن شعارات "تدمير إسرائيل" و"إزالة الكيان"، والدخول في منظومة تحالفات جديدة، قد تشمل حتى علاقات مباشرة مع تل أبيب. وتلك الرغبة تستند، في جانب منها، إلى ما تعتبره إسرائيل ذاكرة تاريخية من "العصر الذهبي" للعلاقة مع الفرس، منذ عهد قورش الكبير الذي سمح بعودة اليهود إلى القدس بعد سقوط بابل.

غير أن السؤال المفصلي يبقى: هل الظروف الداخلية الإيرانية ناضجة فعلاً لتقبّل مثل هذا التغيير الجذري؟

على مستوى المعطيات، هناك مجموعة من المؤشرات التي تغري تل أبيب بالاعتقاد بأن النظام الإيراني بات هشاً إلى حدّ ما. فالحملة الجوية الإسرائيلية، التي استهدفت مواقع عسكرية ونووية وشخصيات بارزة في الحرس الثوري، تُشكّل ضربة مؤلمة لبنية النظام. ومن غير المستبعد، إذا استمرت وتوسعت، أن تقترب من استهداف الحلقة القيادية العليا، وربما المرشد الأعلى علي خامنئي نفسه، كما حصل في لبنان حين قُتل قادة الصف الأول في "حزب الله" ضمن سيناريو لم يكن أحد يتخيل أنه ممكن.

تضاف إلى ذلك الأزمات الاقتصادية المتراكمة، التي أرهقت الطبقات الشعبية الإيرانية، وأضعفت قدرة النظام على تأمين أساسيات العيش، ما أدى إلى تفاقم الغضب الشعبي وتكرار موجات الاحتجاج. ثم هناك أزمة الخلافة، التي بدأت تطفو على السطح بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي، وتولي مسعود بزشكيان رئاسة الجمهورية، في ظل تباينات حادة بين مراكز القرار حول من سيخلف خامنئي.

كذلك لا يمكن تجاهل فقدان إيران للعديد من أدوات نفوذها الإقليمي. فقد أُنهكت قدرات "حزب الله" في لبنان بفعل الاستنزاف العسكري والضغط المالي، وتعرضت "حماس" لضربات هائلة في غزة، فيما لم تعد الساحة السورية تقدم العمق الاستراتيجي المضمون لطهران. كما تراجع الزخم الشعبي لمشروع "الهلال الشيعي" في العراق واليمن، ما يُفقد النظام الإيراني كثيراً من عناصر المبادرة.

لكن في مقابل هذه النقاط، لا تزال هناك عقبات كبيرة تحول دون انهيار النظام. فالأجهزة الأمنية، خصوصاً "الحرس الثوري" و"الباسيج"، ما زالت تتمتع بقدرات عالية على القمع والسيطرة. أما المعارضة الإيرانية، سواء في الداخل أو الخارج، فهي مفككة، وتفتقر إلى قيادة موحّدة أو مشروع سياسي بديل. يضاف إلى ذلك أن جزءاً كبيراً من الشعب الإيراني بات يميل إلى خيار "الاستقرار الناقص" على أنغام الخوف من الفوضى، مستفيداً من مشاهد الانهيارات في سوريا والعراق وليبيا كمؤشرات لما يمكن أن يجلبه التغيير المفاجئ.

وسط هذا المشهد، يبدو أن المنطقة دخلت في واحدة من أخطر لحظات "الكباش التاريخي"، حيث تشعر طهران وتل أبيب، كل من موقعه، أن المعركة مصيرية، وأن بقاء النظامين على المحك. ورغم الطابع الدراماتيكي لهذا الصراع، فإن نهايته لا تبدو وشيكة. فالمعركة مرشحة لأن تكون طويلة، متعددة الجولات، تعيد تشكيل الإقليم خلال السنوات المقبلة.

الرهان الأساسي بات على الوقت. إذ ترى إسرائيل أن نجاحها في غزة ولبنان أعطاها حيزاً زمنيًا أوسع لتوسيع المعركة، لكن حسابات الحرب مع إيران أكثر تعقيدًا. فكلما طالت المواجهة دون حسم، زادت احتمالات دخول قوى إقليمية ودولية على خط التهدئة. وإذا فشلت إسرائيل في تحقيق ضربة استراتيجية قاصمة، فإنها قد تضطر إلى القبول بوقف إطلاق نار، لا يحقق أهدافها الكاملة. أما في واشنطن، فيبدو أن الموقف الأميركي لا يزال داعماً، طالما أن المعركة تُخاض ضد "الشرق المعادي"، ولكن مع سقف محدد: فرض التفاوض وليس تفجير الإقليم بالكامل.

في المحصلة، المعركة مفتوحة، والنتائج لا تزال غير محسومة. لكن الأكيد أن ما يجري اليوم هو أكثر من مجرد حرب. إنه مشهد إعادة إنتاج النظام الإقليمي، حيث لم يعد التعايش بين إسرائيل وإيران ممكناً، بل بات التغيير الكامل، في أحد الجانبين، هو الثمن الحتمي للاستقرار القادم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.