: آخر تحديث

سردية المظلومية بين إيران وإسرائيل: الضحية كفاعل استراتيجي

2
2
3

تشكّل "سردية المظلومية" أحد أكثر المكونات تعقيداً وتأثيراً في البنية الخطابية للصراعات في الشرق الأوسط، وخاصة في العلاقة المتوترة التي تحولت إلى مواجهة عسكرية بين إيران وإسرائيل. فبالرغم من العداء الظاهري والصدامات المباشرة وغير المباشرة بين الطرفين، إلا أن كليهما يشتركان في توظيف سردية المظلومية بوصفها بنية ذهنية وأداة سياسية وأيديولوجية، تمكّن كل طرف من تثبيت شرعيته، وتحفيز جمهوره الداخلي، والتأثير في الرأي العام الدولي. في هذا السياق لا تعود المظلومية مجرد حالة تاريخية أو شعور جمعي، بل تتحول إلى استراتيجية مكتملة العناصر، يُعاد إنتاجها إعلامياً ودينياً وأمنياً.

فالمظلومية في الخطاب السياسي الإيراني تستمد سرديتها من الجذور العقائدية التي تعطي للمظلومية بعداً ميتافيزيقياً يتجاوز السياسة. فالتاريخ الإيديولوجي لها مبني على مركزية مفهوم “الحق المهزوم”، وعلى استبطان الاضطهاد كصفة دائمة، هذا المخيال التاريخي لم يُدفن في الماضي، بل تم إحياؤه وتسييسه بعد الثورة الإسلامية عام 1979، حيث ظهرت الجمهورية الإسلامية كمشروع يرفع راية “المظلومين” في مواجهة “الطغاة”.

وعلى هذا الأساس، يُقدَّم الصراع بوصفه امتداداً لصراع بين الحق والباطل، حتى مع اختلاف المرجعيات القومية والأيديولوجية "لقوى الاستكبار العالمي" كما تسميها، أي بين مقاومة نقيّة وهيمنة مستكبرة. وحين تُفرض العقوبات أو تُغتال القيادات الإيرانية أو تُستهدف المنشآت النووية، فإن الرد الرسمي الإيراني لا يتحدث بلغة استراتيجية، بل يُعيد تأويل الحدث في إطار مظلومية كونية. وهكذا فإن كل انتكاسة تتحول إلى “شهادة”، وكل عقوبة تُعاد قراءتها كعلامة على صدق المسار ومظلوميته.

أما في الحالة الإسرائيلية، فإن المظلومية لا تنبع من بعد "عقدي غيبي" بقدر ما ترتكز على الذاكرة التاريخية لليهود في الشتات، خاصة ما يتعلق بمآسي الاضطهاد في الذاكرة الجمعية للشعب الإسرائيلي، وانتهاءً بالهولوكوست. تأسست إسرائيل من خلال توصيف يكرّس هذه المظلومية “ملجأ الضحايا” من عالم معادٍ، وحُوّلت معاناة اليهود إلى رأسمال رمزي وسياسي دائم، تستثمره إسرائيل في كل مراحل تطورها الأمني والسياسي.

تم تكريس صورة “الدولة الصغيرة المحاطة بالأعداء” في العقل الغربي، كما تم تسويق إسرائيل ليس فقط كدولة، بل "مشروع إنقاذ إنساني" يجب دعمه بلا شروط. وبذلك فإن أي هجوم تتعرض له إسرائيل، يُصوَّر فوراً كاستئناف لمعركة البقاء، وكأنه تكرار رمزي لاضطهاد اليهود في الماضي. بل إن بعض الخطابات الإسرائيلية تربط الهجوم الصاروخي الذي يُفعَّل "كدفاع عن النفس" أو حتى الخطاب السياسي المدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني بمصطلحات مثل “معاداة السامية” و"رفض حق الوجود"، مما يُحوّل الصراع السياسي إلى قضية أخلاقية كونية.

اللافت أن المظلومية لدى الطرفين لم تعد تمثّل لحظة ضعف، بل تحوّلت إلى منصة لتبرير القوة. فإيران التي تصوّر نفسها كضحية للمؤامرات، تمتلك ترسانة صاروخية ضخمة، وتدير حروباً بالوكالة في أربع دول، وإسرائيل التي تسوّق نفسها كمُحاصَرة وجودياً، تُعدّ من أقوى القوى النووية والعسكرية في آسيا. ومع ذلك فإن كليهما يتخذ من الضحية موقعاً مريحاً للشرعية الأخلاقية، ويحرص على إظهار نفسه في موضع الدفاع، لا المبادرة.

وبذلك، نجد أن هناك انتظاراً استراتيجياً للهجوم لدى الطرفين، إذ يتربص كل طرف بالآخر لا ليبادر بالحرب، بل ليتلقى “الضربة الأولى” التي تتيح له تفجير ماكينة المظلومية، فالمظلومية لا تكتمل إلا بشرط “نحن لم نبدأ”، أي أن سردية الرد تتطلب لحظة اعتداء خارجية يُعاد من خلالها ترتيب المشهد الأخلاقي.

تنجح كل من إيران وإسرائيل في تصدير سردية المظلومية إلى العالم الخارجي، وإن بطرق مختلفة. فإيران تستخدم خطاب المظلومية لكسب دعم حركات التحرر واليسار العالمي، وتُقدّم نفسها كحاملة لقضية المستضعفين والمظلومين ضد الاستعمار والإمبريالية. في المقابل، تعتمد إسرائيل على إرث الهولوكوست لتحشيد الدعم الغربي، وخاصة الأميركي، وتسويق أفعالها كجزء من “حق الوجود” في عالم لا يزال يحمل ذنب اضطهاد اليهود.

وفي الحالتين، تصبح المظلومية أداة دبلوماسية وإعلامية كبرى، تُستخدم لتوجيه قرارات مجلس الأمن، ولتأليب الرأي العام، ولإضفاء مشروعية على أعمال عسكرية قد تكون انتقامية أو حتى استباقية. إذ تتحوّل سردية الضحية من وصف للحالة إلى إنتاج لفعل (ضحية تضرب، وتحتفظ بشرعيتها، لأنها ضحية).

يمثل صعود "الضحية المقاتلة" تناقضاً داخلياً يستحق التأمل. فالمظلومية كما هو مفترض، تعني موقعاً ضعيفاً يطلب العدالة أو الإنصاف. لكن حين تتحول هذه المظلومية إلى أداة تفوّق رمزي وردع عسكري وشرعنة للعنف، فإنها تفرغ من مضمونها الأخلاقي وتتحول إلى سلعة سياسية تُستثمر في كل السياقات، من الداخل إلى الخارج.

والسؤال المركزي هو: هل نحن أمام ضحايا حقيقيين، أم أمام قوى كبرى ترتدي قناع الضحية لتسويغ السيطرة؟ وهل تحوّلت "الضحية" إلى أحد أقوى الفاعلين في السياسة الدولية، لا لأنها ضعيفة، بل لأنها تتقن توظيف ضعفها رمزياً لتبرير قوتها فعلياً؟

 

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.