لا يزال المشهد الاقتصادي في الضفة الغربية يئن تحت وطأة أزمات متراكمة، ينذر بمستقبل قاتم لأجيال بأكملها. فبينما تشير أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن متوسط الإنفاق اليومي للأسرة في شمال الضفة الغربية يقارب المئة شيكل، وهو مبلغ زهيد في حد ذاته، يكشف الواقع المرير عن فجوة سحيقة بين هذا المتوسط النظري والقدرة الفعلية لمعظم الأسر الفلسطينية على تأمين حتى نصف هذا المبلغ. البطالة الشديدة، التي تنهش في جسد المجتمع الفلسطيني، تحيل حياة الكثيرين إلى كفاح يومي مرير لتأمين لقمة العيش، وتفاقم من شبح الجوع والحرمان الذي يخيم على البيوت.
يُشير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بوضوح إلى أن أحد العوامل الرئيسية التي تساهم بشكل كبير في تعميق هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة هو استمرار أنشطة المقاومة المسلحة، وقد يرى البعض في هذه المقاومة تعبيراً مشروعاً عن رفض الاحتلال والسعي للتحرير، ولكن الواقع على الأرض يحمل وجهاً آخر، قاسياً ومؤلماً، يدفع ثمنه بالدرجة الأولى المدنيون العزل. ففي أعقاب كل عملية مقاومة، وكل اشتباك مسلح، تتصاعد وتيرة العقوبات والقيود الإسرائيلية المفروضة على الاقتصاد الفلسطيني المتهالك أصلاً.
تلك العقوبات والقيود ليست مجرد إجراءات روتينية؛ إنها سياط جلد تنهش في أوصال الاقتصاد الفلسطيني، وتزيد من حدة الأزمة وتجعل من تأمين الاحتياجات اليومية الأساسية تحدياً وجودياً لعائلات لا حصر لها. فإغلاق المعابر، وتقييد حركة الأفراد والبضائع، وتأخير أو منع التحويلات المالية، كلها أدوات قمع اقتصادي تُستخدم بشكل ممنهج لمعاقبة الفلسطينيين جماعياً، بذريعة الحفاظ على الأمن. ولكن هل يتحقق الأمن الحقيقي من خلال تجويع شعب وحرمانه من أبسط مقومات الحياة الكريمة؟
فالحلقة المفرغة تبدو قاتلة، فهناك مقاومة مسلحة تؤدي إلى عقوبات إسرائيلية مشددة، وهذه العقوبات بدورها تخنق الاقتصاد وتزيد من حدة اليأس والإحباط، مما قد يدفع البعض نحو تبني خيارات أكثر تطرفاً، وهكذا تستمر الدائرة الملعونة في الدوران. والضحية الأولى والأخيرة في هذه الدوامة هم المدنيون الفلسطينيون، الذين يجدون أنفسهم عالقين بين مطرقة الاحتلال وسندان واقع اقتصادي مرير.
إقرأ أيضاً: الدور العربي في غزة
ولا يمكن تجاهل حقيقة أن استمرار حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي في الضفة الغربية، والتي تغذيها أنشطة المقاومة المسلحة، تُنفر الاستثمارات وتعيق أي محاولة جادة لإنعاش الاقتصاد. فالمستثمرون، سواء كانوا محليين أو أجانب، يحجمون عن ضخ أموالهم في بيئة يسودها التوتر وعدم اليقين، حيث يمكن أن تتبخر استثماراتهم في لحظة نتيجة تصعيد أمني أو عقوبات جديدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، إلى متى سيستمر هذا النزيف الاقتصادي؟ وإلى متى سيظل المواطن الفلسطيني يدفع ثمن صراع معقد تتداخل فيه عوامل سياسية وأمنية واقتصادية؟ إن استمرار هذا الوضع ينذر بكارثة إنسانية واجتماعية حقيقية، حيث تتآكل الطبقة الوسطى وتتسع رقعة الفقر المدقع، وتتلاشى الآمال في مستقبل أفضل.
ولا شك أن مقاومة الاحتلال حق مشروع تكفله القوانين والأعراف الدولية، ولكن يجب أن تترافق هذه المقاومة مع رؤية استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار مصلحة الشعب الفلسطيني على المدى الطويل. فاستمرار أشكال معينة من المقاومة، التي تؤدي بشكل مباشر إلى عقوبات جماعية وخنق اقتصادي، قد يكون له تأثير عكسي على الهدف المنشود، ويؤدي إلى مزيد من المعاناة واليأس.
إقرأ أيضاً: حماس تدفع غزة نحو جولة صراع جديدة
والمطلوب اليوم هو حوار وطني جاد ومسؤول، يشارك فيه جميع الفاعلين الفلسطينيين، لمراجعة وتقييم استراتيجيات المقاومة المختلفة، وبحث سبل أكثر فعالية واستدامة لتحقيق الحقوق الوطنية دون إيقاع مزيد من الألم والمعاناة بالشعب الفلسطيني. إن بناء اقتصاد فلسطيني قوي ومستدام، قادر على الصمود في وجه التحديات، يجب أن يكون هدفاً استراتيجياً لا يقل أهمية عن مقاومة الاحتلال.
والمجتمع الدولي، الذي طالما عبر عن قلقه بشأن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، مطالب اليوم بتحمل مسؤولياته بشكل أكبر. يجب أن يمارس ضغطاً حقيقياً على إسرائيل لرفع العقوبات والقيود التي تخنق الاقتصاد الفلسطيني، والسماح بتدفق المساعدات والاستثمارات. وفي الوقت نفسه، يجب على القيادة الفلسطينية أن تعمل بجدية على تعزيز الوحدة الوطنية، وتبني استراتيجيات مقاومة خلاقة لا تؤدي إلى مزيد من المعاناة لشعبها. إن استمرار الوضع الراهن ليس خياراً، والانزلاق نحو المزيد من التدهور الاقتصادي لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة وتأجيج الصراع. لقد آن الأوان لكسر هذه الحلقة المفرغة، والبحث عن مسارات جديدة تضمن للشعب الفلسطيني حياة كريمة وحقوقاً كاملة.