في الوقت الذي يُعاد فيه فتح أسرار وفاة اللاعب الأرجنتيني الأسطورة دييغو مارادونا، حيث تشعل المحاكمة التاريخية حول وفاة أسطورة كرة القدم، مع المتهمين السبعة من فريقه الطبي، وعلى الرغم من مرور أكثر من 4 سنوات على وفاة مارادونا، مرّ بخاطري الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، في كتابه "ذاكرة للنسيان"، الذي يروي فيه الشاعر الفلسطيني الراحل يومياته أثناء حصار بيروت عام 1982م، وتساءل أحدهم محدّثًا الشاعر الراحل، الذي يبدع نثرًا لامعًا ساحرًا كشعره، عن سحر كرة القدم، عن المتعة البريئة التي تتحول إلى حربٍ تدور حول الاستحواذ على الكرة، وتسديد الأهداف في مرمى الخصم، فكتب درويش:
"كرة القدم، ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ إلى ذباب مزعج؟ وما هذا الجنون الذي يعطّل الخوف ساعةً ونصف الساعة؟".
ويكمل قائلًا:
"ونحن أيضًا نحب كرة القدم. ونحن أيضًا يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن ندخل المباراة. لمَ لا؟ لمَ لا نخرج قليلًا من روتين الموت؟ في أحد الملاجئ استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة. وسرعان ما نقلنا "باولو روسي" إلى ما ليس فينا من فرح؛ رجلٌ لا يُرى في الملعب إلا حيث ينبغي أن يُرى. شيطانٌ نحيلٌ لا نراه إلا بعد تسجيل الهدف، تمامًا كالقاذفة لا تُرى إلا بعد تسجيل أهدافها".
وتمثّل هذه الانعطافة التعبيرية، ومقارنة هدف روسي المباغت بالطائرة الإسرائيلية التي تحلق في السماء، لا يراها المحاصرون إلا بعد أن تُلقي جحيم نارها عليهم، عودةً بالمحاصر إلى واقعه الذي كاد ينساه، وهو مسلوب اللب يشاهد أهداف ساحر الكرة الإيطالي.
"حيث يكون روسي، يكون الغول، يكون الهتاف، ثم يختفي أو يتلاشى ليفتح مسارب الهواء من أجل قدميه المشغولتين بطهو الفرص وإنضاجها، وإيصالها إلى أوج الرغبة المحققة. لا تعرف إن كان يلعب الكرة أم يلعب الحب مع الشبكة.
هل يتذكر الجميع العبارة التي كُتبت على أحد الجدران، واشتهرت كما تشتهر النار في الهشيم، حيث كتب أحدهم واصفًا حبيبته: "أنتِ جميلة كهدفٍ في الدقيقة 90".
وحين تحدث درويش عن مفهوم كرة القدم، كتب:
"هي شيء من صراع التأويلات، ومسرح واقعي لتعديل موازين القوى، أو المحافظة عليها، لخلق مستوى آخر للواقع، أو تثبيته. هي شيء من لعبة إعادة تركيب العالم على أسس مختلفة، وعلى جدارة مختلفة.
حربٌ عالميةٌ يمارس فيها خيال الشعوب دوره الغائب أو الحاضر. لا أحد يتفرج على سباق الأجساد، والمهارة، والذكاء، المعبّر عن طبائع الأمم في الهجوم والدفاع، في العنف والرقص، في الفردية والجماعية. الجميع ينخرطون.
ولعل المشاهدين هم أشد اللاعبين اندفاعًا، لأنهم يدفعون بتاريخهم النفسي، وتأويلاتهم، ورغباتهم في التعويض إلى الملعب، لرفع اللعبة إلى مستوى التعبير التمثيلي المتخيّل عن روح الأمة، وحاجتها إلى التفوّق على الآخر. هي الوطنية المتفجرة. شرارة الإفصاح عن الباطن في علاقته بالآخر. وهي حرية الإفصاح المتاحة عن الذات المحرومة من الإفصاح، في سياق السياسة أو الجنس أو اللون.
هي انفجار حرية تعبير عن حرية غائبة، أو عن سيادة تسعى لأن تواصل سيادتها. هي شيء من الصراع الاجتماعي أحيانًا، وعن وحدة القوى الاجتماعية الداخلية في صراعها القومي مع الخارج أحيانًا أخرى.