: آخر تحديث

أوكرانيا بين فكي الشرق الروسي والغرب الأطلسي

14
12
8

أوكرانيا، ذلك الامتداد الجغرافي الفسيح بين أوروبا الشرقية وروسيا، تحولت خلال العقدين الأخيرين إلى مسرح دموي لصراع حضاري وجيوسياسي متعدد الأبعاد. أوكرانيا ليست دولة تتعرض لغزو من دولة مجاورة، بل هي ساحة تصطدم فيها رؤيتان متناقضتان للعالم: الأولى روسية إمبراطورية تعيد إحياء حدود ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، والثانية غربية ليبرالية تسعى لتوسيع نفوذها الأطلسي شرقاً، لتصل حتى قلب العالم السلافي. في هذا الصراع، لم تكن أوكرانيا لاعباً بقدر ما كانت ملعباً، وجغرافيا ممزقة بين شرق يرى في موسكو مرجعيته الروحية والسياسية، وغرب يحلم بأوروبا ويستقي من بروكسل وواشنطن مفردات المستقبل.

الشرق الأوكراني، ذو الغالبية الروسية الناطقة بالروسية، لا ينتمي إلى روسيا فقط بحكم اللغة والثقافة، بل يتصل بها تاريخياً عبر شرايين الصناعة والمصاهرة والدم. المدن مثل دونيتسك ولوهانسك ليست فقط نقاطاً على الخريطة، بل رموزاً لهوية متجذرة تعود إلى الحقبة القيصرية والسوفيتية، حيث تم نقل ملايين الروس إليها لدعم مشاريع التصنيع الشامل في شرق أوروبا. هؤلاء لا يرون في كييف حاضنتهم السياسية، بل يشعرون أنها انجرفت نحو خطاب قومي معادٍ لكل ما هو روسي. ومع اندلاع الحرب، وجد هؤلاء أنفسهم على الخط الأمامي لصراع الهويات، حيث يتحول الانتماء اللغوي إلى تهمة، والحنين إلى موسكو إلى خيانة.

على الطرف الآخر، يقف الغرب الأوكراني، وتحديداً مدن مثل لفيف، وهي أقرب في تركيبتها الثقافية والنفسية إلى كراكوف البولندية من دونيتسك الصناعية. هنا، لا يُنظر إلى موسكو كمركز روحي، بل كمحتل تاريخي، وكابوس لماضٍ سوفيتي يسعى الأوكرانيون للتخلص من إرثه. هنا وُلدت النزعة القومية الأوكرانية، وبرزت الشخصيات التي نادت بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، متجاهلين – بوعي أو دون وعي – أن تلك الطموحات لا تأتي دون أثمان جيوسياسية فادحة. الغرب الأوكراني هو محرّك الثورة البرتقالية، ثم انتفاضة الميدان في 2014، والتي أطاحت بالرئيس الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش، وكانت الشرارة التي أطلقت الحرب المفتوحة بين الشرق والغرب على الأرض الأوكرانية.

إقرأ أيضاً: استعيدوا دواعشكم قبل أن يستعيدهم التطرف

روسيا من جهتها، لا تنظر إلى أوكرانيا كدولة مستقلة بالمعنى الكامل، بالنسبة إلى بوتين، أوكرانيا ليست منطقة نفوذ فقط، بل هي جزء من الهوية الروسية الكبرى، وعاصمتها التاريخية (كييف روس) هي المهد الرمزي للحضارة السلافية الشرقية. هذه النظرة ليست طموحاً توسعياً تقليدياً، هي أقرب ما تكون إلى رؤية وجودية، ترى في خروج أوكرانيا من المدار الروسي انهياراً لما تبقى من هيبة روسيا كقوة عظمى. رؤية انعكست في تدخل روسيا العسكري في القرم عام 2014، ثم في دونباس، وأخيراً غزوها الواسع في 2022. كلها تأتي ضمن هذا السياق الذي يدمج الأمن بالهوية، والجغرافيا بالتاريخ.

أمَّا الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فيرون في أوكرانيا فرصة استراتيجية لاحتواء روسيا، وربما لتقويضها من الداخل. الدعم الهائل بالأسلحة، والتمويل، والجهود السياسية والدبلوماسية، لم يكن فقط لحماية دولة ذات سيادة، بل لحماية النظام العالمي الذي تقوده واشنطن من التحدي الروسي الصاعد. أوكرانيا أصبحت جدار صد، ومختبراً لأنظمة التسليح الغربية، وورقة ضغط اقتصادية على موسكو. ومع العقوبات التي فُرضت على روسيا، أصبحت كييف بوابة لحرب اقتصادية عالمية بين قطبين يتصارعان على شكل النظام العالمي القادم.

إقرأ أيضاً: الوحش لم يمت… عودة داعش من رماد الهزيمة إلى ظلال الصحراء

ما يزيد التعقيد هو أنَّ الداخل الأوكراني ذاته ليس متجانساً، ليس على صعيد اللغة أو التاريخ، بل في البنية الاجتماعية والسياسية التي تعاني من الفساد، والتفاوت، والانقسام الطبقي. أوكرانيا لم تكن دولة مستقرة حتى قبل الحرب، وكانت تعيش صراعاً داخلياً بين الأوليغارشية المالية، والنخب الغربية الطامحة، وطبقات شعبية ممزقة بين الهويات. الحرب لم توحد هذه الأطياف بقدر ما عمّقت الجراح، وخلقت واقعاً جديداً يضع ملايين الأوكرانيين في خانة اللاجئين، ويهدم المدن والبنى التحتية، ويدفع البلاد نحو مستقبل مجهول. الحقيقة المرة أن لا أحد يريد أوكرانيا كما هي.

الروس يريدون شرقها وموانئها الجنوبية، ليضمنوا السيطرة على البحر الأسود وربط الدونباس بالقرم، بينما الغرب يريدها حاجزاً جيوسياسياً ورافعة اقتصادية ضمن السوق الأوروبية. وفي هذا التنازع، تتآكل السيادة الأوكرانية، وتتحول كييف إلى مجرد أداة تفاوض في لعبة أمم أكبر منها. مستقبل أوكرانيا لا يقرره الأوكرانيون وحدهم، بل هو نتاج صفقات بين موسكو وواشنطن، وبين مصالح عابرة للحدود.

السيناريوهات المحتملة تشير إلى احتمال تقسيم فعلي، حتى لو لم يُعلَن رسمياً. الشرق قد يرسو في نهاية المطاف ضمن فلك موسكو، سواء كأقاليم انفصالية أو مناطق مستقلة شكلياً، أما الغرب فسيتحول تدريجياً إلى دولة أوروبية مدمجة في المؤسسات الغربية، لكن بثمن اقتصادي وسياسي باهظ. ما يُفقد في هذه العملية هو النسيج الوطني ذاته، والقدرة على إعادة بناء دولة تتجاوز الاصطفاف، وتؤسس لهوية جامعة. الهوية الأوكرانية اليوم تُصاغ تحت نيران الحرب، لكنها ما تزال عرضة للتفتت بفعل الاستقطاب الحاد بين الشرق والغرب.

إقرأ أيضاً: هكذا تتحدى إيران العالم وتمد الحوثيين بالسلاح

إنَّ أوكرانيا اليوم تشبه صخرة تتكسر بين موجتين هائلتين. الروس يحاولون استعادتها بالقوة والتاريخ، والغرب يحتضنها كحاجز وردع. ما بين هذا وذاك، يدفع الشعب الأوكراني الثمن مضاعفاً، من دمائه، واقتصاده، وهويته. وربما بعد سنوات من الحرب، لن تبقى أوكرانيا كما نعرفها اليوم، بل ستُرسم حدود جديدة، وتُفرض وقائع تُعيد تشكيل خريطة أوروبا الشرقية. ذلك أن من يعيش بين الشرق الروسي والغرب الأطلسي، عليه أن يعرف أن الحياد لا يُسمح به، وأن الجغرافيا في هذا الجزء من العالم ليست قدَراً فقط، بل لعنة أيضاً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.